لا يصعب على حنيف قريشي استعارة حياة الآخرين والتظاهر بالبراءة. روايته الأولى منذ خمسة أعوام تنسخ حياة ف. س. نيبول، الكاتب البريطاني الحيّ الوحيد الحائز نوبل، لكن قريشي ينفي اطّلاعه على السيرة اللاذعة التي أصدرها باتريك فرنتش في 2008. لم يصدّق القرّاء والنقّاد أن نيبول تعاون مع فرنتش وسمح بنشر كتاب يفضحه. ناقد «ذا تايمز» قال إن ذلك يشبه قبول دوريان غراي بتعليق صورته في «ذا ناشينال غاليري». أجاب نيبول عن كل أسئلة فرنتش الذي اطّلع بحرية على الأوراق الخاصّة لزوجة الكاتب الإنكليزية المظلومة، وفصّل الألعاب الجنسيّة التي مارسها مع عشيقته الجنوب أميركية. في اليوم الذي أحرق نيبول جثة زوجته الراحلة، دعا امرأة أخرى الى منزلها. لم تكن العشيقة الصابرة، بل كاتبة باكستانية لم يلبث أن تزوّجها. «الكلمة الأخيرة» الصادرة عن دار فابر ترصد هاري جونسن الذي كتب سيرة عن جواهر لال نهرو، رئيس وزراء الهند الراحل، وتلقّى اتصالاً من مامون أزام، أكبر الكتّاب البريطانيين الأحياء. يتّجه الشاب متوجّساً الى منزل أزام المسنّ في عمق الريف، ويستقبله هذا وهو يرتدي ملابس مالكي الأراضي هناك، مع زوجته الشابة المبهرجة التي تنتشر المجوهرات بكرم على جسدها. «ماثل ذلك زواج غاندي من شيرلي بيسي وذهابهما الى إمبريدج للعيش فيها»، يفكّر جونسن. حسبت ليانا زوجها ثريّاً، وخابت لأن نجمه خبا ودخله لا يكفي منزلين وخزانة واسعة. قرّرت أنه يحتاج الى زخم جديد، وفكّرت بسيرة تعيده الى الضوء وتنعشهما اقتصادياً. يناور جونسن لنيل ثقة أزام وهو ينوي فضحه في كتاب يتصدّر لائحة المبيع. ولئن رأى السيرة لعبة خداع طويلة، يكتشف لسوء حظّه مهارة الكاتب فيها. تنتهي الرواية بالقول: «كان كاتباً، صانع كلمات، مُخبر الحقائق الهامة. كانت (الكتابة) طريقة للتغيير، للعيش جيداً، وخلق الحرية». يماثل أزام نيبول تماماً شكلاً، وينحصر الاختلاف بينهما في التفصيل. مامون مسلم غير ممارس وليس هندوسيّاً أهمل دينه كنيبول. ولد في الهند وبات «إنكليزياً» في كمبريدج، فيما ولد نيبول لأسرة هندية الأصل في جزر إنديز الغربية ودرس في أكسفورد. باستثناء ذلك، تتطابق الشخصيّتان كما يرسمهما قريشي روائياً وفرنتش سيرةً. كلا الرجلين مغرور، سادي، عاشق للذات والشجار واستغلال الآخرين، ارتبط بعلاقة ساديّة- مازوشية مع امرأة من جنوب أميركا وتزوّج ثانية في كهولته من شابّة. اشتهر كلاهما مهنياً بتوثيق الاستعمار وآثاره، واحتقار المستعمَرين. حين يرى مامون أفريقياً من الكاريبي في الشارع يقول إنه ابن زنا بشع وكسول في طريقه الى امرأة بيضاء ليغتصبها. يعتبر الكاتبات البريطانيات سحاقيّات باستثناء واحدة يميّزها عن غيرها فقط لأنه يستطيع القيام معها بفعل جسدي يشمئز من القيام به مع الأخريات. استخدم قريشي أشخاصاً حقيقيين وأفراد أسرته في أدبه، وأثار التصوير السلبي غضب شقيقته ياسمين التي خاصمته وطلبت علناً البقاء خارج رواياته. تشبّهه «ذا نيويورك تايمز» بفيليب روث في حقبة ما بعد الاستعمار، وتورده «ذا تايمز» اللندنية بين أفضل خمسين كاتباً بريطانياً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولد في آخر 1954 جنوبلندن، لأب باكستاني وأم إنكليزية، وإذ أنكر جانبه الآسيوي، لم يشأ تغيير اسمه كما اقترح والده تجنّباً للتمييز العنصري. تصالح شرقه وغربه في الكتابة وتأثّر بفيليب روث وب. ج. وودهاوس وليس بسلمان رشدي. يعلّم الكتابة الإبداعية، وكتب في ملحق «ذا تلغراف» نهاية الأسبوع الماضي أن على الطالب نسيان العقدة والمنظور والحوار. معظم الناس تخطر لهم أفكار جيدة، لكنهم يهملونها. على أن كُتّاباً مثل ماري شيلي وستيفنسن ووايلد وكافكا وتشيفر في «فرانكنستاين» و «جيكل وهايد» و «دوريان غراي» و «تحوّل» و «السابح»، وريموند كارفر وسيلفيا بلاث في أيّ من أعمالهما يدفعون الى التفكير في اللامنطق الجامح والجرأة والألق في أفكارهم وليس في ترتيب فقراتهم. وجد هؤلاء الكُتّاب حلولاً لصراعات أزعجتهم وعذّبتهم بدت ثغرات أو مستحيلات أولاً، ثم تطلّبت قفزة إبداعية الى طريقة جديدة في النظر. غيّر خيالهم الأشياء وتخطّاها، وتطلّب صنع شيء جديد أثار الصدمة وبقي نضراً حتى اليوم. قد يتسبّب الصراع الذي لا يُحتمَل بالاكتئاب وبغض الذات، ونستطيع اعتبار الاكتئاب فشلاً في الخيال ورفضاً مدمّراً للبحث عن حل أو النظر الى أمام. هذا الصراع قد ينتج أيضاً عملاً فنيّاً يمثّل المستحيل. في تحفة كافكا «تحوّل» يستفيق غريغور سامسا ذات صباح ليجد أنه تحوّل الى خنفساء الروث. من دلالات ذلك علاقة كافكا بأسرته وهروبه من طريقه المسدود. لم يستطع التحدّث عن أزمته أو يغيّر حياته لمازوشيّته، لكن مشكلته خلقت مجازاً وتسوية جميلة على الأقل من وجهة نظر التاريخ الأدبي. أدرك وليم وردزوِرث وسامويل تيلور كولريدج الرومنطيقيان أن الخيال خطر كالديناميت سياسيّاً وذاتيّاً. قد يبدو الخيال كالفوضى، لكنه في الواقع استنارة مع أنه خطر ويجب أن يكون كذلك. ثمة أفكار متفجّرة يجب قمعها ومنعها لأن الخيال مضاد للمجتمع أحياناً. شاء أفلاطون منع الفن في دولته الفاضلة لأنه محاكاة قد تثير الشعب أكثر من المطلوب. هوجم الكُتّاب والفنانون وسُجنوا وتعرّضوا للرقابة لتعبيرهم عن أفكار لا يحتمل الآخرون سماعها. من وجهة النظر هذه، الكلمة مخاطرة، ويجب أن تكون كذلك. قلّما يتصرّف الخيال جيداً، وهو يختلف عن الفنتازيا، الجامدة غير المتغيّرة بطبيعتها، التي نرى معها الأشياء نفسها تكراراً. يمثّل الخيال الأمل والولادة المتجدّدة وطريقة جديدة من الكينونة في حين تشكّل الفانتازيا عودة الى المألوف. قال طالب لقريشي إنه يقرأ لكي تزداد أفكاره عن الحياة. الخيال مَلَكة أساسيّة يمكن تطويرها ومتابعتها، وهو ضروري كالحب، لأننا من دونه سنحاصَر بين الأضداد الموحشة لهذا أو ذاك، أو في شمال كوريا العقل، الفتّاكة والفارغة، حيث يقلّ ما ننظر إليه. في صراعه مع الكبت يمثّل الخيال أكثر من الفكر والممكن: إنه متعدّد، معقّد، سلس، جامح وإروتيكي. سواء شئنا أو لا، محكوم علينا بأن نكون فنّانين. نحن صانعو حياتنا وفنّانوها، ماضياً ومستقبلاً، سواء اعتبرنا الماضي جثة أو مورداً أو غير ذلك. نحن فنّانون بالطريقة التي نرى بها العالم ونفسّره ونبنيه. فنّانون كل يوم باللعب، الحديث، المشي، الطعام، الجنس والحب. كل قبلة، عمل، وجبة طعام، كلمة متبادلة وكل ما يُسمع إما أن يملك فنّاً أو يفتقر إليه. البقاء الناجح في العالم يتطلّب مقدرة كبيرة. قد تبدو الجرأة والابتكار مستحيلين لأن تواريخنا وشخصياتنا قد تتحوّل هويّات ثابتة. نُصنع قبل أن ندرك ذلك، وما نحن عليه ربما عرقلنا. تكبحنا أيضاً شياطين مدمّرة، ثرثارة تريد الأقل من الأفضل فينا. إنه صراع للعيش بحريّة توقف الهويّات خلاله، وتحدّنا فيه تفسيرات القانون والعادات. لا شيء أخطر من السلامة التي تبعدنا من إعادة الاختراع والإبداع. قد يبدو العمل الخيالي تخريبيّاً ويقضي على أكثر ما نرتبط به. ندفع للذّتنا بالذنب، لكن في النهاية تأتي التعاسة واليأس بالمرض، وثمنهما أعلى من ثمن السلامة. فليكن الجنون مرشدنا، ولكن ليس وجهتنا. لا يخطئ الكُتّاب الطامحون الذين يريدون أن يتعلّموا العقدة والبنية والسرد، لكن اتبّاع القواعد يؤدّي الى الطاعة والوسطيّة. غريبة هي الكتابة العظيمة والأفكار الكبيرة. تبدو الشعوذة والسحر فيهما أكثر شبهاً بالأحلام منها بوصف العالم. الفن اليومي يصنع العالم ويعيد صناعته لمنحه معنى ومضموناً. إنها مسؤوليته. الخيال يبتكر الواقع بدلاً من أن يقلّده. ليس هناك إجماع مثير للاهتمام حول العالم. في النهاية ليس فيه إلا ما نراه هناك، وسواء كان هذا أكثر أو أقل، فإنه أمر يومي يتعلّق بالطريقة التي نريد العيش فيها ومع من نرغب أن نكون.