في إطار الاحتفالات بالذكرى الثالثة لثورة 25 يناير غير المكتملة والمأزومة، أعلن الرئيس الموقت عدلي منصور تعديل خريطة الطريق بحيث تجرى الانتخابات الرئاسية قبل البرلمانية، وقبل يومين أكد الإعلام الرسمي تفويض الجيش الفريق عبدالفتاح السيسي للترشح لرئاسة مصر. قبلها بساعات كان الرئيس الموقت قد منح الجنرال لقب المشير، وهي أعلى رتبة في الجيش. بعدها بساعات أيضاً أذاع المجلس الأعلى للقوات المسلحة بياناً يوافق على ترشح السيسي لرئاسة مصر. ترتيبات متفق عليها وخطوات حذرة، لكنها متوقعة تقود المشير السيسي لإعلان ترشحه، والذي يتساوى مع فوزه بالرئاسة، فالرجل هو الأوفر حظاً والمرشح الذي لا تمكن هزيمته في انتخابات ديموقراطية نزيهة، لأنه من وجهة نظر قطاعات واسعة من المصريين - وليس كل الشعب - البطل الذي أنقذ مصر من الحرب الأهلية، والوحيد القادر على مقاومة الإرهاب والحفاظ على قوة الدولة والنهوض بمصر. لكن، على رغم كل ذلك ثمة ارتباك في المشهد، وغموض وبالونات اختبار، تتعلق بحقيقة معارضة واشنطن وعواصم عربية مؤثرة ترشح السيسي للرئاسة، وهل الجيش يفوض السيسي أم يوافق على ترشحه نزولاً على رغبة الشعب؟ ولماذا أقحم المجلس الأعلى للقوات المسلحة نفسه في عملية الترشيح؟ وما الدلالات والرسائل التي حملها البيان الصادر عنه والمكتوب بلغة تعود إلى الحقبة الناصرية من حيث ادعاء الحديث باسم الشعب، ووحدة الجيش والشعب وإرادة الأخير وتكليفه السيسي الترشح للرئاسة. أعتقد أن لغة البيان الملتبسة وحملات التأييد الشعبي والإعلامي للسيسي كرئيس وزعيم التي انطلقت قبل أشهر عدة تثير عدداً من الأفكار والمخاوف الجديرة بالمناقشة: أولاً: يسمح بيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقراءات وتأويلات متعددة، الأولى أن السيسي هو مرشح الجيش للرئاسة، وذلك استجابة من الجيش لإرادة الشعب وتقديراً في الوقت نفسه لدور السيسي في تطوير القوات المسلحة ورفع كفاءتها العسكرية ورفع روحها المعنوية. والقراءة الثانية أن السيسي هو مرشح الشعب الذي يثق به ويطالبه بالترشح ولا بد للرجل من الاستجابة لنداء الشعب وتكليفه. أما القراءة الثالثة، فهي أن الجيش ترك للسيسي الحق في الاستجابة لنداء الواجب وضرورات الوطن. مع التشديد على أن الشعب يثق في السيسي ويكلفه الرئاسة ولا بد من أن يستجيب لرغبة الشعب وتكليفه. القراءة الرابعة تتضمن كل المعاني والتأويلات الثلاثة السابقة، وتضيف إليها ضرورة الجمع بين إرادة الشعب ونتائج الانتخابات الرئاسية، لأن صناديق الاقتراع هي صوت جماهير الشعب، ما يعني أن الجيش في كل الأحوال سيحترم إرادة الناخبين، ولن يتدخل في السباق الرئاسي. القصد أن الجيش حاول أن ينفي تفويضه أو دعمه المباشر للسيسي، فالشعب هو الذي يطالب السيسي بالترشح ولا يمكن الجيش أو السيسي سوى تحقيق رغبة الشعب التي تعتبر واجباً وتكليفاً. ثانياً: لم يعلن السيسي حتى اليوم ترشحه للرئاسة، ومع ذلك انطلقت حملات الحشد والتأييد وهو ما يثير إشكاليات في شأن علاقة الجيش وأجهزة الدولة بالسباق الرئاسي، وهل السيسي هو مرشح الجيش أم مرشح الشعب والجيش؟ أم هو مرشح يستجيب لرغبة الشعب وتكليفه؟ وما تأثير ذلك في نزاهة الانتخابات الرئاسية وعملية التحول الديموقراطي، خصوصاً أن المرشحين المحتملين بغالبيتم أعلنوا انسحابهم من السباق قبل أن يبدأ؟ وتتنافس رموز ناصرية وقادة أحزاب مدنية وحركات وائتلافات سياسية وشبابية في مقدمها حركة «تمرد»، على مبايعة السيسي للرئاسة والاستعداد للمساهمة في كتابة برنامجه الانتحابي! والمشاركة في حملته التي لا يعرف أحد كيف ستدار، ومن سيمولها. مهما كانت الإجابات، فالرجل ليس مرشحاً اعتيادياً، بالتالي هل تمكن منافسته أو ضمان مناخ انتخابي يوفر الحد الأدنى من المساواة والشفافية بين المرشحين؟ مع ملاحظة أن الأخطار والتهديدات الأمنية من الجماعات الإرهابية ستحول دون حرية حركته في السباق الانتخابي وتواصله مع الناخبين. ولا شك في جدية هذه التهديدات، لكن هناك خشية من استخدامها لتبرير تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية بحيث يسمح للعاملين في الجيش والشرطة بالترشح، ما قد يسمح للسيسي بتقديم استقالته كوزير للدفاع مع استمراره في الخدمة العسكرية وخوضه الانتخابات بالبدلة العسكرية في تماهٍ غير مطلوب بين الجيش والمرشح الرئاسي الأوفر حظاً. والحقيقة أن هذه المخاوف جاءت بعد تصريحات بعض مؤيدي السيسي الذين يخشون على حياته، ويطالبون باستمراره في الجيش وخوض الانتخابات الرئاسية، ويرون أن الدستور الجديد لا يمنع العسكريين من التصويت، والترشح للانتخابات، بالتالي يطالبون الرئيس الموقت بتعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية. ثالثاً: إن حملة السيسي للرئاسة قد بدأت فعلياً قبل أسابيع أو بالتحديد تطوع له آخرون وأطلقوا حملات دعاية وترويج له، والأخطر أنهم قاموا بتشويه كل المرشحين المحتملين. وثمة مبالغات هائلة في حملات تأييد ترشيح السيسي وربط غير دقيق وفي غير سياقه التاريخي بين الرجل وعبدالناصر، وأحياناً بين السادات والسيسي، ما قد يؤثر سلباً في نسب المشاركة في التصويت، خصوصاً أن هناك مؤشرات تفيد بأن الانتخابات لن تكون معركة متكافئة، بالتالي هناك احتمال أن يتحول السباق الانتخابي إلى ما يشبه الاستفتاء، وهذا السيناريو قد يدفع كثيرين من الناخبين إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية على غرار ما حصل في الاستفتاء الذي شارك فيه 38 في المئة فقط من الناخبين. من ناحية أخرى، فإن مبالغات الدعاية الانتخابية للسيسي سترفع من سقف طموحات المصريين وبحثهم عن البطل والزعيم القادر على حل مشاكل الاقتصاد والأمن والسياسة، وهي أمور لن يكون بمقدور السيسي تحقيقها في السنوات الأربع المقبلة، ما قد يعرّض شعبيته للتراجع. رابعاً: إن مسار الأحداث يؤكد قبول النخبة السياسية والاقتصادية وقطاعات واسعة من الشعب لرئاسة السيسي من دون شروط، وقبل الإعلان عن برنامجه الانتخابي، أي أننا بصدد مبايعة من دون شروط، وفي ظل احتمال عدم وجود مرشحين أقوياء يمكنهم خوض السباق الرئاسي، فان المشهد العام يتقدم نحو تحقيق الشرطين اللذين طلبهما السيسي قبل أسابيع للترشح، وهما تأييد الجيش وتفويض الشعب، ما يعني أن الرجل مسيطر على الأحداث، وأنه قد يحصل على كل الشروط المعلنة والضمنية التي طالب بها المصريون، وهنا تثار مخاوف في شأن إعادة إنتاج الحكم الشمولي والزعيم الملهم، وقيام حزب سياسي كبير حول السيسي يندمج في الدولة ويضم كبار العائلات في الريف و «الفلول» ورجال الأعمال، وسيتمكن هذا الحزب من الهيمنة والاستحواذ على السلطة والثروة في ظل ضعف أحزاب ما بعد 25 يناير، وسيقدم الحزب الجديد نفسه كنسخة معدلة وإصلاحية من «الحزب الوطني» وكبديل عن «الإخوان»، ولا شك في أن فزاعة الإرهاب و «الإخوان» وتصاعد الشعبوية وحملات التعبئة والحشد وإعلام الصوت الواحد قد تساعد في تحقيق الشمولية الجديدة، والتي لا يمكن وصفها بالإصلاحية إلا في ضوء برامجها وممارستها على أرض الواقع. الخلاصة، إن فوز السيسي بالرئاسة أو ظهور حزب يملأ الفراغ الذي خلفه «الحزب الوطني» و «الإخوان» مسألة وقت لا أكثر، وهي خطوات لا تبشر بتحول ديموقراطي أو تحقيق لأهداف 25 يناير في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وأعتقد أن تراجع الحريات وعودة بعض مظاهر الدولة البوليسية وإعلام الصوت الواحد، وانهيار تحالف 3 يوليو وصدام شباب الثورة مع الحكم الموقت... كل هذه المؤشرات ترجح أن لا تسير مصر في الطريق الصحيح، بل ربما تبتعد عنه في الذكرى الثالثة لثورة 25 يناير التي فجرت آمال المصريين وطموحاتهم في الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية، لكن «الإخوان» سرقوا الثورة، وعمقوا من أزمة الدولة والمجتمع ما دفع النخبة السياسية وغالبية الشعب إلى اجترار أطياف الماضي ودعوة الجيش والبحث عن عبدالناصر والسادات معاً في شخص السيسي. استعادت النخبة وغالبية الشعب نماذج قديمة لمواجهة أزمات القرن الواحد والعشرين، وكأن مصر كتب عليها العيش في خيارين لا ثالث لهما: إما «الإخوان»، أو دولة شمولية يقودها الجيش، وقدمت تلك الدولة ثلاث طبعات متناقضة في عصور عبدالناصر والسادات ومبارك، فهل يقدم السيسي طبعة رابعة منها، أم يقدم نموذجاً جديداً مغايراً يستجيب لتحديات العصر وحالة الانقسام والاستقطاب الداخلي الذي يتعمق وتتسع دوائره، ويتخذ أشكالاً متنوعة من الصدام الدموي الذي يستنزف الاقتصاد المنهك. إن نجاح السيسي كرئيس مرتبط باحترامه الديموقراطية وحقوق الإنسان والاعتماد على القوة والعقل وإطلاق حوار مجتمعي يشارك فيه الجميع باستثناء من تورط في أعمال العنف أو الإرهاب، لكن تبقى المعضلة في أن السيسي نفسه من وجهة نظر البعض هو المشكلة وهو رمز لعدم احترام آليات الديموقراطية وحقوق الإنسان، وهنا تكمن أزمة مصر ومأساتها التي لن تخرج منها بإقرار الدستور أو انتخاب السيسي والبرلمان. * كاتب مصري