لكثرة ما تمّ تدويل الأزمة السوريّة، لم تعد شأناً دولياً ملحّاً. غطى الإفراط غير المجدي في شيء عملاً مجدياً طالما تم تأجيله، وخسرت الأممالمتحدة ما كان يمكنها أن تتلافاه لو بادرت، عبر مجلس الأمن، بقرار ملزم يوقف على الأقل طاحونة القتل. صحيح أن المؤتمرات والاجتماعات الإقليمية والدولية الخاصة بالشأن السوري تكاد ألاّ تعرف توقفاً، وهي تتسابق مع وتيرة العنف التي بلغت ذرى منحطّة، لكنّ الصحيح أيضاً أن لا أصدقاء الشعب السوري ولا أعداءه، داخلين خارجين، قدروا على حسم أمرٍ هو من صلب مسؤوليات المنظمة الدولية. فبعد مرور سنة على تفجّر الثورة السورية ربيع 2011، كان مطلب التدخل الدولي على رأس الأولويات، أقله لجهة تأمين ممرات إنسانية وفرض حظر على طيران النظام. بعيدها تحوّل التدخل المأمول، إذ تدخلت دول كثيرة، على مرأى الجميع إلى مشكلة المشاكل. أخيراً وبعد طول لأي، أعلنت منظمة الأممالمتحدة باعتبارها مسؤولة «إعلامية» عن حفظ الأمن والسلام العالميين، والتي يقع مبناها ذو التسعة والثلاثين طابقاً على أرض كانت في جزء منها مسلخاً تبرّع به السيد جون روكفلر كي تحظى نيويورك دون سواها من المدن الأميركية بحقّ استضافة ممثلي العالم، أعلنتْ قرارَها الصائب الوحيد ربما، والذي طالما تمّ تأجيله وتغليفه بأكثر من سبب واهٍ ومبرر غير مقنع، إذْ أعلنت التوقّف (نهائيّاً) عن إحصاء عديد القتلى السوريين! الضحايا صامتون، أرقامهم تكلمت طويلاً بدلاً منهم، حتى بلغت صرخاتها تخوم الكتمان الخانق. وظاهر الحال أن قرار المنظمة هذا لا يحمل أي جدوى، وهو إلى التقرير الأخرس أقرب منه إلى قرار فاعل، غير أنه بسبب ذلك الفشل الدولي المخزي يعطي إشارة تحسم الجدل حول هشاشة دور المنظمة الدولية الأهم، الدور الذي تحول مع مرور الوقت إلى عجز كامل عن إيجاد مخرج ينقذ ملايين السوريين من جحيم أزمة كارثية أولاً، وتحوّل المنظمة لاحقاً إلى جهة إحصائية محايدة ثانياً، بعد أن غلبَها العدُّ المديد وأتعبت الشكوى المضجرة آلافاً من موظفيها المحترمين. غير أن الحساب المحض، إذ يُجرَّد ويُحبَس داخل رقمٍ أشبه بأرقام البنوك، إنما يحوّل الضحايا الذين جرى إحصاؤهم إلى معتقلين جدد داخل مصنفات الموت، بعد أن جرفهم القتل الهمجيّ إلى عتمات القبور. حسابٌ لا ينفع كلّ حين، بخاصة حينما يغفل عن تناول الجانب النفسيّ، واحترام كرامة الكائن البشري، من حياة مهدورة وأعراض مجتمع (المعاصر بخاصة) تطرح مصاعب أكثر وأوسع من أن يلمّ بها رقمٌ هو حصيلة عدٍّ ومراقبة لا غير. وإذا صرفنا النظر عن قيمة مدلول الأرقام في حيزها الرياضي والإحصائي والعلمي، وخطونا نحو مكان لا يخضع لسلطان الرقم الجائر، بتنا في حيرة من أمرنا، ولربما دفعنا الرقم الذي حصّلناه من مشقة الأمس إلى نسيانه في خمول اليوم؛ طالما غدا بلا نفعٍ بعدما كنّا، وكان هو، معاً في أمسّ الحاجة إلى بعضنا بعضاً. ولربما من النافع أيضاً أن نتذكر أرقاماً شقيقة جاورت الرقم السوري الذي فاض عن حدّ الإحصاء حتى قطعه وأتلفه. فقد قيل قبيل «غزو» العراق عام 2003 إن 11 مليون بعثيّ سيدافعون عن أرض الرافدين، لكن هؤلاء البشر المرقَّمين تبخروا فجأة، ليدلّوا، في ما دلّوا إليه، إلى وهم الكثرة الخاوية الذي جلب الفشل لا غير. يبقى أن نذكر شيئاً آخر يتعلق بالأممالمتحدة، عدا النقد المنسيّ الذي وجّهه غرامشي إلى مبادئ تأسيسها التي حصرت حقّ القبول والطعن بالخمسة الكبار محتكري أمن العالم وسلامه، وهو تأسيسٌ حمَلَ معه من اللاعدالة الكثير، وفضّل شعوباً ما كان ينبغي أن تُفضَّل على شعوب أخرى، في الوقت الذي افترض ميثاق الأمم المساواة التامة بينها! لربما من الأفضل الآن، رفعاً للحرج عن جلال المنظمة ومراقبيها، ودفعاً للإهانة عن وضاعة الضحايا والمنسيين، أن يبقى السوريون خارج الأرقام. رقمٌ تلو رقمٍ كثيراً ما تمّ إحصاؤه وتجديده، ها هو ينتصر ضمناً لمسالخ دمشق الأسد. الرقمان معاً، بإحصاء أو من دونه، ليسا غير علامة على عجز العالم عن أن يعترف للمرة الأخيرة بأن مدوّني الأرقام هؤلاء، بعدما تعبوا فقرروا التوقف عن إحصاء عدد القتلى، من دون أن يوقفوا القتل، ليسوا سوى جزء مكمّل من المسلخ الأمميّ الأصليّ، الجزء الموهوب يوماً حبّاً بنيويورك، ما لم يكونوا من داعمي بقاء مسلخ دمشق - نيويورك مسلخاً إلى الأبد!