كان جو التوتر والترقب مهيمناً على منزل رئيس مجلس إدارة مصرف «سيتي بنك» في نيويورك. وكان أكثر الحاضرين اهتماماً بما يجري داخل الجمعية العامة مساء ذلك اليوم الموافق 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947... هو المحتفى به كميل شمعون، رئيس وفد لبنان إلى الأمم المتحدة. وبعد طول انتظار، قطعت مرحلة الترقب مكالمة هاتفية من سكرتير الوفد اللبناني، أخبر فيها شمعون بأن قرار تقسيم فلسطين الرقم 181 قد صدر، وأن ضغوط واشنطن مع حلفائها قد قلبت التوازنات في الجمعية العامة. وعلى الفور، اتصل مندوب وكالة «أسوشييتد برس» بكميل شمعون ليستصرحه حول ذلك التطور السياسي المفاجئ. وكان تعليقه منسجماً مع الأجواء القاتمة التي طغت على تجمعات المندوبين العرب. أي أنه اختصر في حينه تداعيات ذلك القرار المجحف، محذراً من عواقبه الوخيمة بالقول: «إذا كانت الأمم المتحدة قد أنشئت بهدف إنهاء الحروب بين الشعوب... وبغرض تطبيق ميثاق حفظ السلام الذي صدر عن مؤتمر سان فرنسيسكو عام 1945، فإن القرار الجائر بحق شعب فلسطين سيفتح باب الحروب على مصراعيه... ويعبد طريق الاقتتال في منطقة الشرق الأوسط.» وهذا ما أكده من قبله الدكتور شارل مالك الذي ساهم في وضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد نشط في صيف 1947 لإقناع الدول الكبرى بعدم التكفير عن جريمة مرتكبة ضد الشعب اليهودي في أوروبا بارتكاب جريمة أفظع ضد الشعب الفلسطيني البريء. والملفت في حينه أن الحكومة اللبنانية كانت قد فوضت كميل شمعون بترؤس الوفد الديبلوماسي، بعد تعيين شارل مالك عضواً مساعداً لشمعون بصورة موقتة. وقد سارع مالك إلى إعلان انسحابه لأسباب لا مجال لذكرها في هذا الموضوع. المهم، أن مظاهر الفشل التي توقعها كميل شمعون من الأمم المتحدة لم تنتظر وقتاً طويلاً كي تظهر في مواقع مختلفة من العالم. ففي عام 1956 حدث الاعتداء الثلاثي على السويس، الأمر الذي فرض تدخل الرئيس الأميركي آيزنهاور وإجبار الغزاة على الانسحاب. وكان من نتيجة الوساطة الديبلوماسية التي قام بها الأمين العام داغ همرشولد، أن وافقت مصر على نشر قوات حفظ السلام فوق أراضيها. عام 1960 انضمت إلى المنظمة العالمية 16 دولة أفريقية مستقلة حديثاً. ولكن انضمامها لم يمنع انفجار الحرب في الكونغو. ولقد استغل الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشيف تلك الحرب الضروس ليهاجم بقسوة دور الأمم المتحدة ويطالب باستقالة أمينها العام همرشولد. وبدلاً من أن يكتفي بإلقاء خطابه الناري في الجمعية العامة، سارع إلى خلع حذائه وراح يضرب به على الطاولة، متهماً المنظمة بالخضوع لمشيئة الولايات المتحدة. في منتصف أيلول (سبتمبر) من عام 1961، قُتِلَ همرشولد بعدما أسقط المقاتلون طائرته لينسفوا مهمته، ويمنعوه من التدخل لوقف الحرب في الكونغو. في خريف 1962 نصب الاتحاد السوفياتي صواريخه في كوبا، الأمر الذي استدعى تدخل الأمين العام يوثانت بهدف منع الولايات المتحدة من استخدام سلاح الردع النووي. وبعد مرور سنتين على الأزمة الكوبية - أي عام 1964 - بدأ النزاع المسلح بين الجاليتين اليونانية والتركية في قبرص. ولما ازدادت الصدامات، أرسل مجلس الأمن قوات حفظ السلام للفصل بين المتقاتلين. ولكن هذه القوات المحدودة العدد لم تتمكن من منع الجيش التركي عام 1974 من النزول في المنطقة الشمالية، الأمر الذي أدى إلى شطر الجزيرة. وفي عام 1967 شنت إسرائيل هجوماً واسعاً استمر ستة أيام على ثلاث جبهات، كانت حصيلته احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية وصحراء سيناء ومرتفعات الجولان. ومع أن مجلس الأمن أصدر قراره الشهير الرقم 242 الذي يجيز للمنظمة اتخاذ الإجراءات كافة الضرورية لتنفيذه، إلا أن إسرائيل تجاهلت المجلس وقبلت فقط بمبدأ التفاوض. ولولا الزيارة التي قام بها أنور السادات لإسرائيل، لما استردت مصر صحراء سيناء مقابل توقيع اتفاق «كامب ديفيد». في آذار (مارس) 1978 غزت إسرائيل جنوب لبنان لتقيم عازلاً جغرافياً بحجة حماية أمن الجليل من صواريخ الفدائيين الفلسطينيين. ثم كرر شارون عملية الاجتياح عام 1982 بهدف تغيير النظام في لبنان وإقامة نظام حليف يدور في فلك بلاده. مرة أخرى أثبتت الأمم المتحدة أنها منظمة عاجزة عن منع الاحتلال بقوة السلاح. علماً أن البند الثاني من ميثاقها يحرص على التذكير بأنها وجدت لمنع الحروب، ومقاومة كل إجراء لا ينسجم مع الدعوة إلى نشر السلام. وفي هذا السياق تبرز حرب فيتنام التي خسرت فيها الولايات المتحدة أكثر من خمسين ألف جندي، كشهادة على العجز الفاضح الذي تعانيه الأمم المتحدة. ومن معركة «ديان بيان فو» ضد الاحتلال الفرنسي عام 1954 حتى حملة «هوشي منه» عام 1975 ضد التدخل الأميركي، ظل العالم مشغولاً بأهم حرب آسيوية في القرن العشرين، تماماً مثلما شغلته حرب الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994 حيث قتل أكثر من ثمانمئة ألف شخص في نزاع قبَلي بين قبيلتي التوتسي والهوتو. هذه النماذج المسجلة في قائمة الفشل الذي منيت به الأمم المتحدة، ليست أكثر من أدلة دامغة على خيبة أمل الرأي العام من أداء مجلس الأمن، خصوصاً أنه يملك القدرة على منح الشرعية للتدخل الخارجي. ومثل هذه المسؤولية حددها القانون الدولي بأربع حالات: قتل شعب، وتطهير عرقي، واقتراف جرائم حرب، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وينص ميثاق الأمم المتحدة على ضرورة التدخل في حال فشلت الدولة في حماية مواطنيها من الفظائع الجماعية... أو في حال فشلت المساعي السلمية لإجبارها على ذلك. عندئذ تبرز مسؤولية الأسرة الدولية للتدخل عبر العقوبات الاقتصادية، أولاً... أو عبر التدخل العسكري ثانياً. ويقتضي التدخل العسكري استخدام مجلس الأمن لإصدار قرار على أساس الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يسمح باستخدام القوة العسكرية لمنع أعمال تضر بمسيرة السلام. عند الحديث عن تدخل عسكري من خارج المنطقة في نزاعات تشغل دولاً عربية كسورية، يتبادر إلى الأذهان الدور الذي يقوم به الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن. وقد اقترحت التطورات دوراً مركزياً للولايات المتحدة. ويبدو أن الرئيس باراك أوباما متردد في اتخاذ موقف جديد قد يورط بلاده في حرب فاشلة مثلما حدث في العراق وأفغانستان. وهناك شكوك لدى أعضاء إدارته تمنعها من مساندة المعارضة السورية التي منعتها الخلافات من إحراز النصر. وفي واشنطن يتذكرون جيداً أن نجاح «المجاهدين» الذين لاقوا كل دعم سياسي ومساندة عسكرية في أفغانستان شكل الأساس لتحول العناصر المتطرفة فيهم إلى جماعات جهادية من «القاعدة» وفروعها بحيث أصبحت الولايات المتحدة والدول الغربية عموماً هدفاً سهلاً لهجماتها. أما بالنسبة لدور الصينوروسيا، فان استخدامهما الفيتو ثلاث مرات لمصلحة النظام السوري كان بمثابة موقف ثابت لتحقيق هدفين: الأول، منع سقوط نظام حليف في منطقة بالغة الأهمية. وثانياً، الحؤول دون تعزيز مكانة القوى الغربية المنافسة كنتيجة لتغيير النظام. ومعنى هذا أنه لا توجد إمكانية لنيل شرعية دولية تسمح بالتدخل العسكري، مثلما حدث مع نظام معمر القذافي. ومثل هذا الوضع المحرج يعزز مخاوف الدول من أن يؤدي إسقاط النظام إلى خلق واقع تسوده الفوضى، بحيث تنفجر حرب الجميع ضد الجميع. ومع ظهور الفلتان الأمني، ستضطر الدول المعنية إلى إرسال قوات برية عبر الأردن أو تركيا بهدف الفصل بين المتقاتلين ومنع استمرار المذابح. علماً أن تركيا تتحفظ عن ممارسة أي تدخل في الشأن السوري، خوفاً على وحدة جبهتها الداخلية من التصدع والتفكك. الحملة السياسية التي شنها ضد مجلس الأمن، الأسبوع الماضي، مندوب السعودية الدائم لدى الأمم المتحدة السفير عبدالله المعلمي لم تكن أكثر من تذكير بأن التدخل لأسباب إنسانية يجب أن يحظى باهتمام الدول المعنية، خصوصاً أن أرقام القتلى في سورية قفزت على المئة والعشرين ألف نسمة، بينما أعداد المشردين والنازحين تعدت الأربعة ملايين. وفي حال استمر النزاع على الشكل الانتحاري المتواصل، فإن النتيجة لن تكون في مصلحة الشعب السوري، بل في مصلحة الدول التي تستعمله للحفاظ على مصالحها. تقول مصادر الأمم المتحدة إن التدخل العسكري في سورية بقي طوال السنة الماضية على جدول أعمال مجلس الأمن. وهذا ما دعا الحليفة موسكو إلى الإعراب عن قلقها من خيار لا تستطيع تجاهله بعد مرور أكثر من سنتين على الحرب الأهلية. وقد تميزت هذه الحرب باستخدام العنف ضد المدنيين، الأمر الذي أجبر المعارضة على تقليد «شبيحة» النظام. وهي مرشحة للتصعيد قبل نهاية السنة بسبب التركيبة الطائفية للمجتمع السوري، وهذا ما يجعل الصراع مع النظام صراعاً بين الطوائف. صحيح أن الاحتجاجات التي انفجرت في درعا وحمص وحماة كانت تعبر عن ثورة سياسية - اجتماعية تشمل كل الطوائف... ولكن الصحيح أيضاً أن المواجهات العنيفة بين الطرفين سرعان ما حولت الثورة إلى مجموعات مذهبية وعرقية تقاتل من أجل بقائها. هكذا، اتهمت المعارضة النظام بالحفاظ على الطابع الطائفي لأنه يجبر الأقليات على دعمه، حتى إن كان فيها مَنْ يتحفظ عن طابعه الديكتاتوري المتسلط. ذلك أن الأقليات تخاف من تنامي حكم الغالبية السنّية، وتعرف جيداً أنه في حال سقوط النظام ستسقط معه. في ظل الوضع الراهن يدور البحث حالياً على إقامة منطقة فصل داخل الأراضي السورية على مقربة من الحدود مع تركيا بحيث تستخدم كمنطقة لجوء للنازحين والمشردين. والثابت أن النظام يراهن على حدوث انقسامات وانشقاقات داخل صفوف المعارضة، خصوصاً أنه يعتمد في تحركاته الخارجية على روسياوالصين، الدولتين اللتين أمنتا له نيل شرعية دولية، كما يعتمد أيضاً على إيران، الحليفة التي أنجدته بقوات برية دخلت إلى سورية عبر العراق. إضافة إلى تعويض كل نقص اقتصادي ناتج عن العقوبات والمقاطعة. وفي مطلق الأحوال، فإن بشار الأسد يراهن مجدداً على ضمان تأييد الولايات المتحدة لنظامه، شرط أن يساعدها التحول الإيراني على تنفيذ ذلك وإنما بمقدار يطمئن إسرائيل. وربما يستغل أوباما هذا التحول ليعقد اتفاقاً مع طهران، تماماً كالاتفاق الذي عقدته الإدارات الأميركية السابقة مع موسكو! * كاتب وصحافي لبناني