في مؤتمر «جنيف 2»، باع وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، الأميركيين وحلفاءهم من البضاعة التي روّجوا هم أنفسهم لها: الخوف من الإرهاب وضرورة محاربته. لخص الرجل مجمل الموقف في سورية بمسألة الإرهاب، معتبراً أن ليس من ثورة سوى مسمّاها. وهو بذلك يعيد صياغة التاريخ ووقائعه كما يحلو له. وقد قدم على أية حال خطاباً مغْلقاً وسردية لا تنفع معها المحاجّة، وهي ليست مصاغة لهذا الغرض. بل نعت المعلم الإرهاب ب «الخارجي»، منزّهاً السوريين عنه، إلى أي جهة انتموا (عدا ربما بعض «المرتزقة» من ضعاف النفوس، وممن لا يستحقون بالتالي الذكر)، وملقياً تبعات الأمر الجلل على «آخر»، هو بالضرورة «غريب». وهذا تزوير ثانٍ حيث لا يستقيم الوصف، بحكم الانخراط العلني في المعمعة لسوريين هم بلا شك الغالبية الساحقة من المسلحين المقاتلين في البلد. لكنه منحى معلوم، يجعل ممن يرتكب الفعل الإرهابي، لو كان فرداً، شخصاً معتوهاً أو مصاباً بدرجة متقدمة من العصاب، وينعت الجماعات المرتكِبة، لو كانت محلية، بصفات تجعلها استثناء، شذوذاً عن السياق الطبيعي. وأما الأرجح فهو الاعتداد بأجنبيتها، بمعنى انتمائها إلى بلد وجنسية آخرَيْن، مكان يأتي منه الشر وافداً. وفي أكثر من بلد أوروبي، يشار الى الأصول الأجنبية للشبان الذين ينخرطون في مثل هذه الأعمال، ويُعبَّر عن الاندهاش حيال واقعة ولادتهم في البلد الذي استضاف أهلهم، ومنحهم في الأغلب جنسيته. وفي حادثة محمد مراح (آذار- مارس 2012)، الذي قَتل في شكل فردي عسكريين فرنسيين (بعضهم من أصول مغاربية!) ثم هاجم وقتل أطفالاً في مدرسة يهودية في تولوز، دار جدال حول «مكان» دفنه بعد مقتله على يد القوات الخاصة، بما أن والده رغب في «استرجاعه» إلى الجزائر (رفضت سلطاتها السماح بذلك)، فاعتبر دفنه في مدافن المدينة التي ولد فيها وعاش ثم قتل، «اضطرارياً»، بل رأت ممثلة اليمين المتطرف في السماح به تدنيساً للأرض الفرنسية (رغم حيازته جنسيتها). وفي بريطانيا، أُقر تجريد من يغادرها من البريطانيين للالتحاق بالقتال في سورية من جنسيته. ومن الجلي أن المقصود بالإجراء هو من اكتسبها وليس «الأصلاء». فأكثر ما يقلق سلطات تلك البلدان ويثير إعلامها في آن، هو انجرار («انحراف»؟) بعض هؤلاء «الأصلاء» إلى الالتحاق بالمجموعات «الإرهابية» في سورية، متفحصين حالتهم وباحثين عن أسبابها المرَضية. وفي كل الأحوال، لا يتوقف وزير الداخلية الفرنسي مثلاً عن إحصاء الملتحقين بسورية، وعن رصد حركتهم ذهاباً وإياباً بقدر الممكن، ثم خصوصاً التساؤل عما سيفعلون في البلد بعدما تدربوا عسكرياً وذاقوا طعم القتال. وفي كل هذا سلوكٌ يشبه كثيراً ما قاله السيد المعلم، وإن اختلفت المفردات والصياغات. لكن وزير الخارجية السوري لم يكتفِ بهذا، بل رمى شباكه باتجاه ما يُفترض أنه استدعاء التأييد لما يرتكبه نظامه باسم مكافحة الإرهاب. وهو استثمر في خطابه (وفي الوضعية المتعالية التي اعتمدها) المأزق القائم في بلده المتمثل بانتشار القتال المسلح، وانفلات العنف الدموي الذي يطاول جميع الناس، وتحوّل سورية فعلاً بؤرة جذب للمقاتلين الأجانب من كل صوب (المؤيدين للنظام والمعارضين له). كما استثمر تهافت المعارضة الرسمية المقولبة التي سُرِّبت محاضر اجتماعها الفضائحي في اسطنبول قبيل انعقاد «جنيف 2»، بقصد مقارعة تسريب ونشر صور ضحايا التعذيب والتصفيات المنسوبة إلى النظام، وإن كانت الفضيحتان مختلفتين تماماً في الطبيعة والمستوى. في ذلك المأزق تحديداً تكمن «قوة» النظام السوري التي بات يشير إليها أكثر من طرف (وليس في تطور قدراته على الحسم العسكري، «مفتاح الحل» كما ادعى وزير الداخلية السوري). وحوله تنتظم المفاوضات الفعلية، غير المرئية في مؤتمر «جنيف 2»، والمساومات لو وُجِدت، سواء بين روسيا والولايات المتحدة أو على المستوى الإقليمي. ولكن ما هو المدى الممكن للقدرة على الاستمرار في استثمار التهديد بالإرهاب؟ أو متى ينقلب السحر على الساحر؟ في العراق، يعرض نوري المالكي على أبناء عشائر الفلوجة والرمادي تصفية مجموعات «داعش» «المتسللة الى منطقتهم» في مقابل منحهم الأمان، وإلا فهو يجهّز للحسم العسكري، وسيكونون هم مَنْ يدفع الثمن. وهذه معادلة تعاني عطبين، أولهما البدء بالقصة من آخرها، من اللحظة الراهنة مقطوعة عن سياقها، فيتم تجاهل السبب الفعلي والظرف اللذين أوصلا الأنبار الى حالتها الراهنة: الإهمال والازدراء المديدان، ثم القمع الدموي للاعتصامات المدنية، وهي مطلبية واحتجاجية، استمرت هناك أكثر من سنة. والثاني تخيير الأهالي بين الموت و... الموت، إما بالقتال ضد «داعش» أو على يد السلطة. فماذا بعد، وكيف يمكن أن تستقر الأمور للمالكي أياً تكن المخارج التي سيتخذها الموقف؟ وفي مصر، بُني مسرح الإرهاب على فرعين، أولهما يشبه حال الأنبار لجهة الإهمال والازدراء المديدين لأهالي سيناء، ومعاملة كل تحرك لهم بالقمع، ما يدفع عادة الى التجذر والعنف المقابل. وأما الثاني، الأحدث، فيتمثل بالهجوم على اعتصام «الإخوان» في رابعة واقتلاعه وسط بحر من الدماء المراقة، ثم معاملة كل تحرك لهم بعنف مفرط، وإحاطتهم بالتحريم وبكثير من المرويات الخرافية حولهم. لا يعفي ذلك «الإخوان» من مسؤوليتهم عن خياراتهم الكارثية، حين كانوا في السلطة وبعدما أزيحوا عنها. لكن مسرح الإرهاب، بأحداثه الفعلية وتلك الأخرى المفتعلة، كان شرطاً لازماً لصوغ الهستيريا القائمة حول «المصرية» (إلى درجة اتهام «الإخوان» بأنهم غرباء عن الأمة)، والدولة، والأمن... ما فتح الطريق عريضاً أمام التسليم للجيش ولقائده الفريق السيسي، بوصفه المخلِّص من ذلك الرعب المسمى «الإخوان» (الذين كانوا قبلها بقليل يحوزون تأييداً نسبته تُداني نصف الشعب). فكيف للفريق الذي يبدو أنه سيصبح الرئيس بعد أشهر قليلة، أن يخلّص مصر فعلاً مما هي فيه، على كل المستويات؟ ثم لو استمرت حوادث العنف التي أوصلت إلى تسليم الأمر له، لكان ذلك مصيبة (عليه وعلى البلد)، ولو توقفت لاضطر إلى مجابهة سائر القضايا من دون إجماع الخوف الذي بناه. وهذه كلها، مضروبة بمئة أو بألف، حال الاستعصاء السوري... بانتظار «جنيف 3» وأخواتها.