دون مقدمات وجدت «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) نفسها في مواجهة مفتوحة مع الكل، وكأن المدن العربية التي تلقت كفوف الإرهاب المغلف بالشعارات الدينية والتطرف، اكتفت فجأة من هذا الكم المتصاعد من العنف، الذي ضرب أطرافها من بيروت إلى مدن الشمال السوري وصولاً إلى غرب العراق في محافظة الأنبار على وجه الخصوص، قرر الجميع فجأة الخوض في معركة «طرد» للخلايا المتطرفة، بعد أن لعبت في السنوات القليلة الماضية إلى جانب فصائل أخرى لا تقل تطرفاً عنها دوراً محورياً في الصراع الممتد من بلاد الفرات إلى بلاد الشام. محافظة الأنبار هي منطقة ذات غالبية «سنية» محسوبة سياسياً على النظام السابق باعتبار أن عدداً كبيراً من أهلها عملوا في السلك العسكري كعناصر وضباط في الجيش العراقي، ووجدوا أنفسهم بعد حله دون عمل وفاقدين للامتيازات التي كان النظام يوفرها لهم، واستبعدوا من المشاركة في اللعبة السياسية خصوصاً بعد محاولاتهم المتكررة للانقلاب على الحكم، ونفذوا عمليات عسكرية بحق مدنيين ورجال شرطة، مستفيدين من مد تنظيم القاعدة غير المشروط لهم بالسلاح والمال بحجة دعمهم لمحاربة الاحتلال الأمريكي، حيث شهدت المنطقة عمليات عسكرية واسعة ومركزة ضد الأمريكيين خلال سنوات الاحتلال. وقد تكون هذه المنطقة نالت حصة كبيرة من شعار «محاربة الإرهاب» الذي رفعته الولاياتالمتحدةالأمريكية عقب أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، واتخذته ذريعة لإسقاط النظام العراقي والتدخل عسكرياً في غير منطقة من العالم، إذ ردَّ الأمريكيون بدورهم على هؤلاء بعمليات عسكرية واسعة دموية وتكبدوا فيها خسائر باهظة في الأرواح. وجدت القاعدة في الأنبار حاضنة اجتماعية مناسبة، وتمكنت في سنوات قليلة من جذب عدد كبير من العراقيين للمحاربة في صفوفها، شكلوا عماد قوتها المتمركز في صحراء الأنبار وفي بعض المدن المتفرقة، لكن قادة التنظيم العسكريين غالباً ما كانوا من جنسيات مختلفة ممن اكتسبوا خبرات عسكرية في القتال في حروب الشيشان وأفغانستان وسواهما، أما القادة الدينيون فكانوا من السعودية وتونس وغيرهما. ورغم محاولات الجيش الأمريكي القضاء على هؤلاء خلال فترة الاحتلال، إلا أن المجموعات الإسلامية المتطرفة تمكّنت بعد انسحاب القوات الأمريكية من تثبيت أقدامها في الفلوجة والرمادي وعمدت إلى السيطرة على الممر البري بين العراق والدول التي تحده غرباً، ما نشط حركة تهريب واسعة للعتاد والمقاتلين، تمظهرت بشكل علني في الشمال السوري، إذ تمكن تنظيم القاعدة العراقي «دولة العراق الإسلامية» التي يتزعمها أبو بكر البغدادي من نقل الحالة المتطرفة إلى سوريا، فأرسل أولى عناصره إلى سوريا لتأسيس «جبهة النصرة» على يد أبو محمد الجولاني بعد نحو شهر على اندلاع الحراك السلمي في درعا (آذار 2011). وكشف تقرير بريطاني أعده مركز «كويليام» أن منطلق «جبهة النصرة» في قتال النظام السوري هو بحت دينية جهادية أيديولوجية، و«تسعى إلى إعلان الخلافة في بلاد الشام بعد سقوط النظام الحالي»، تماماً كحال «داعش» التنظيم الذي انبثق عن «دولة العراق والشام» لينادي بضم الشام أيضاً إلى خارطة الخلافة. لأسباب عديدة، لم تعمد السلطات العراقية إلى اجتثاث المد المتطرف الذي نشأ تحت أنظار الدولة، خاصة أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي «غض الطرف» عن اعتصام الفلوجة عاماً كاملاً قبل أن يقرر فضه فجأة وبدموية، فاتحاً حرباً على القاعدة تزامنت مع مواجهات عنيفة في سوريا خاضتها تنظيمات إسلامية على رأسها «الجبهة الإسلامية» بزعامة زهران علوش ضد «داعش» في حلب وإدلب والرقة وحققت فيها تقدماً كبيراً. ويقدّر مصدر عراقي مطلع أن المالكي لم يختر خوض هذه الحرب بل فرضت عليه فرضاً، «لأنه بات على مشارف خسارة الأنبار، إحدى أكبر المحافظات العراقية وتحتل ثلث مساحة العراق»، وتتميّز بموقع استراتيجي مفتوح على سوريا والأردن (شمال وغرب) والسعودية (جنوباً)، إضافة إلى اتصالها بمدن عراقية أساسية كبغداد شرقاً والنجف وكربلاء جنوباً ومحافظتي صلاح الدين ونينوى شمالاً. ويشير المصدر عينه أن «المالكي وجد نفسه عاجزاً أمام نقص العتاد العسكري اللازم لمواجهة المتطرفين، وطلب قبل أشهر معونات أمريكية في التدريب والعتاد وافقت عليها واشنطن لكن بشرط أن يؤدي الطيارون العراقيون نوعاً من الخدمة الإلزامية لمدة سنتين في أفغانستان بعد انتهاء مهمتهم العراقية»، ويؤكد المصدر نفسه أن «المالكي رفض العرض الأمريكي، وفضّل التوجّه بطلب الأسلحة إلى روسيا، ما أحرج الأمريكيين ودفعهم لقبول تسليح الجيش العراقي مباشرة، وعلى ضوء وصول الأسلحة الأمريكية الجديدة، دشنت حكومة المالكي حملتها على قواعد داعش بداية في المناطق الصحراوية، حيث تنظّم المجموعات المسلحة تدريبات لمقاتليها الجدد، ومن ثم العمل على فك اعتصام الفلوجة. وبغض النظر عن دقة الوقائع الميدانية، بالإمكان ملاحظة نوع من الاتفاق الدولي والإقليمي غير المعلن وغير المسبوق على التخلص من «داعش»، سُرّعت على إثره عجلة تقديم المساعدة الأمريكية، وعرضت إيران مساعدات ومعدات عسكرية، وفتحت روسيا ذراعيها لصفقة أسلحة ينتظر وصولها قريباً إلى العراق، فيما اكتفت المملكة السعودية بالمراقبة عن كثب. قبل تصفية تنظيم «داعش» الذي ضاق بتجاوزاته وتسلطه وبطشه حتى الفئات الأقرب أيديلوجياً إليه، سُمح له بلعب دور أساسي ، ووجد دعماً بالسلاح والمال خوّله احتلال مواقع مهمة كالسيطرة على الممرات الحدودية وضبطها ومدن كاملة في كل من سورية والعراق، ما يذكر بحركة «طالبان» و«قاعدة» بن لادن اللتين ساهمت الاستخبارات الأمريكية في تأسيسهما لمحاربة الاتحاد السوفيياتي السابق قبل أن تنقلبا عليها وتتحولا إلى ألدّ الأعداء. لكن أسئلة كثيرة تطرح نفسها، لماذا داعش بالذات؟ ولماذا تحييد «جبهة النصرة» المعترف بها علنياً من قبل زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري كذراع القاعدة في سورية والموجودة على لائحة الإرهاب السوداء الأمريكية؟ ومن التالي على لائحة التصفية من هذه الفصائل؟. لا بد أن لبعض الاستحقاقات الدولية والمحلية دوراً فيما يحصل في العراق، ففي جنيف السويسرية ينطلق بعد أيام مؤتمر السلام السوري، ويبدو أن الطريق إلى جنيف لم تتعبد نهائياً، وتشكل «داعش» واحدة من العقبات التي تحد من قدرة المعارضة السورية على التحدث في المؤتمر باسم المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، لذلك كان لا بد من تقليمٍ للأظافر من قبل مجموعات لا تقل عن داعش تطرفاً لكنها ممسوكة من قبل دول إقليمية ودولية، وموعودة بالجلوس على طاولة التفاوض في جنيف مباشرة أو بشكل غير مباشر، ولا يكفي تقليم أظافر «داعش» في سورية دون شقيتها العراقية التي تشكل السند والخزان البشري والعسكري للميدان السوري. وعلى هامش المصلحة الإقليمية والدولية بإضعاف «داعش»، تبرز مصالح عراقية محلية لحكومة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الذي يحاول خوض الانتخابات في إبريل المقبل محملاً بوقع انتصارٍ يحققه على القاعدة في الأنبار، وينتظر أن تعزز هذه المعركة أسهم فوزه من قبل شريحة واسعة من الناخبين، بخاصة هؤلاء المحسوبين على كتلتي الصدر والحكيم المعارضتين والرافضتين لاستمراره في رئاسة الوزراء، لكنها تبقى خطوة محفوفة بالمخاطر، إذ سيكون على عشائر الأنبار أن تختار ولاءها للقاعدة التي احتضنتها لسنوات، أم ل»الصحوة» التي انقلبت على المتطرفين وقبلت بمساندة المالكي في حربه الأخيرة؟.