يبدو ان ثمة من استجاب أخيراً لدعوة بثينة شعبان المجتمع الدولي بإجراء «تحقيق جدي يعتمد البحث العلمي»، في ما اعتبرته ادعاءات مفبركة غداة مجزرة الكيماوي في الغوطة. بالفعل أجري التحقيق وكشف عن 11 الف جثة مات اصحابها جوعاً وتنكيلاً، صور جعلت الموت بالكيماوي أقرب الى القتل الرحيم. لكن مرة أخرى، تفقد شعبان صوابها وتصرخ واصفة الأدلة بالمفبركة فيما سبقها الى تبرير المجزرة بهدوء وحنكة، الكاتب الصحافي روبرت فيسك: «لمَ لم نطالب بفتح تحقيق دولي في مجزرة حماه واتهام مرتكبيها بجريمة حرب؟»، سأل فيسك قراءه بعدما رفع عنه اللوم، او هكذا اعتقد، بأن أقر ب «فداحة» الصور و»فظاعتها»، وهي التي تكشف أساليب التجويع والتعذيب الممنهج والتصفية «الصناعية»، ما يعيد الى الأذهان معسكرات الإبادة النازية. وأرفقت الصور بتقرير لثلاثة من كبار المدعين العامين يشهد لهم فيسك نفسه (مشكوراً) بالنزاهة والأمانة المهنية. لكن الرجل الذي شحذ قلمه منذ اليوم الأول للثورة ليدافع عن الأسد، ولم يوفر جهداً في تبرير مجازره وتغطيتها بذرائع من قواميس الممانعة والتخوين، عاد وشكك في النيات التي تقف وراء نشر التقرير «في هذا التوقيت تحديداً»، أي عشية انعقاد مؤتمر جنيف، و»الجهة التي مولته»، أي دولة قطر. واستعان «محامي بشار» بهذين الخيطين ليحيك نظرية مؤامرة تستهدف نظاماً يدافع عن نفسه ضد الإرهاب. وإن كان دموياً، يقتل ويعذّب ويجوّع، فكذا المعارضة، يقول لنا فيسك. الأخطر، في هذا المنطق، المقارنة بمجزرة حماه التي فاق ضحاياها ال 11 ألفاً ومرت بلا محاسبة وعقاب. هكذا يدعونا فيسك الى تجرع الكارثة بالتقليل من شأنها، كون اعدادها لا ترقى الى تلك، وكونها استراتيجية طبقت في الثمانينات وتطبق اليوم ويجب التصرف حيالها كمسألة اجرائية. وهو بذلك يمنح الأسد هامش قتل أوسع ويقول للسوريين: هذا ليس أسوأ ما حدث لكم، فلم كل هذه الجلبة الآن؟! وتفوّق فيسك على شعبان ومجموع المدافعين عن نظام الأسد بأن استعاض عن «السابقة القانونية» التي يقاس عليها لإصدار أحكام غير منصوصة، ب «سابقة دموية» يريد من الضحايا أن يقيسوا عليها ليجعلوا كل ما دونها «عادياً»، مبرراً مزيداً من الجرائم طالما أن جهازاً رسمياً أو دولة توجهها ضد خصم انتفض عليها وهدد وجودها. لكن باعتماد تلك المقاربة «العلمية» نفسها، يمكن القول إن مجزرة حماه التي تفوق اعدادها أضعاف ما ذكره واعترف به هي في الواقع جريمة اضافية على لائحة اتهام نظام البعث منذ الأب حتى الابن. وهي فرصة للقول إن القتل الممنهج لا يقتصر على لحظة ظرفية في «محاربة الإرهاب» وإنما هي عقل مدبر لا يختلف في هذا عن النازية وتتوارثه القيادات. فإذا كانت بعض أطياف المعارضة دموية بدورها، فإنها تشكل هامش المشهد العسكري المعارض بينما تلك الممارسات متن النظام وقاعدته العامة. إلى ذلك، فعدد ضحايا الصور التي تسربت أخيراً لا يختصر كل ضحايا النظام في السنوات الثلاث الماضية أو ما قبلها. فهذا ما رشح من فرع عسكري واحد وعبر شخص واحد، أي أنه قمة جبل الجليد الذي سيحتاج كشفه جيشاً كاملاً من المنشقين والموثقين والمحققين. وربما لم تكشف تلك الصور ما لا يعرفه السوريون عن نظامهم، وربما لن تقام محكمة دولية للأسد وأعوانه على غرار «نورنبرغ». فمن ابتلع مجزرة الكيماوي ولم يحرك ساكناً قد يبلع معها فضيحة تلك الجثث. أما التفكير الحقيقي والمقلق فيتجاوز الضحايا أنفسهم الى جيش الجلادين ممن لا نعرف لهم وجهاً أو عدداً. هؤلاء الذين خلفهم نظام الأسد ويشكلون سلسلة القيادة المتكاملة، المتشبعون بأمراض النظام وإجرامه والقائمون بأعماله الوسخة بأيديهم ليعودوا مساء الى منازلهم فيغسلوها وقد أتموا دوام عمل «عادي». هؤلاء هم الذين أطاعوا الأوامر وتفننوا في تنفيذها وجهدوا لتوثيقها تأكيداً منهم على انجاز المهمة... فهل نسينا أن الصور والبيانات وشهادات الوفاة أعدّت لأرشيف النظام وليس لمحكمة لاهاي؟ * صحافية من أسرة «الحياة».