في رواية «الجحيم» تمتد أدوات المؤلف الأميركي بعيداً عن تقليدية الأثر الروائي، واستثماراً دلالياً للأيقونات والرموز، متجهة إلى سطح ملتهب، يزداد في كل مرة توتراً، ينتمي إلى تلك التوترات المحببة في الأعمال الأدبية الناضجة، التي تصنع مسافة توتر تميز الأطياف الأدبية الخالصة، غير القابلة للنسيان أبداً. يأخذنا دان براون إلى عوالم هائلة مفعمة بالفنون والرموز والنصوص المكتوبة والنغمية والمرئية، وسط أجواء غرائبية ساحرة، داخل المتاحف والمعابد والساحات والحدائق والمقابر، التي تتعالق مجسماتها ولوحاتها وصورها وأيقوناتها وموسيقاها، بروابط حوارية مذهلة، يلتقي فيها النص المكتوب للثقافة الإسلامية بالنص التصويري للثقافة المسيحية.. والتصميم المعماري لمدينة «ديزني» في الغرب بالتصميم الخارجي لأحد آثار مدينة إسطنبول التاريخية. ووفقاً لهذا الإشباع الروائي الحواري، يحتار المرء من أي الأبواب يلج إلى عالم براون الجديد، ومع ذلك يمكن مقاربة أطيافه من خلال الثيمات الحاسمة الآتية: أولاً، الحدث. يسطع المبنى «الحكائي» من بين فضاءات «الجحيم» مسلطاً الضوء على شكلوفسكي وايخنباوم وبقية الروس المفتونين «بالشكل» الذين جعلوا ذلك «المبنى» يمارس تغريباً على تسلسل المتن الحكائي للأحداث.. لإنتاج «جمالية» ما. فأحداث المتن الحكائي في تسلسلها التراتبي - وعلى رغم تعقيدها وتشابكها - يمكن كتابتها بأقل عدد ممكن من أسطر مقاربة «الحكاية»: الشابة سيسينيا بروكس، التي تتمتع بذكاء نادر، تلتقي بعالم الجينات زوبريست في شيكاغو الأميركية.. وتحدث بينهما روابط جسدية وعقلية وعاطفية وثيقة.. زوبريست هذا يلتقي بمديرة منظمة الصحة العالمية الدكتورة سينسكي، ويعرض عليها هاجسه المعرفي والشخصي معاً، الذي يهدف إلى الحد من ظاهرة التكاثر البشري، والذي يراه خطراً كبيراً على النظام البيئي، ولكن سينسكي تفجع من هذه الفكرة المخيفة وترفضها، ما يجعلها تدخل في تحدٍّ خطر مع زوبريست. يستعين عالم الجينات بمنظمة المينداسيوم، التي تقدم خدماتها لأكثر الشخصيات نفوذاً في العالم، ويطلب منها أن تخفيه عن الأنظار مدة عام، لكي يستطيع أن «يصنع» وباءه الذي قرر أن يضع من خلاله حداً للنمو السكاني المتزايد.. هناك يقوم بذلك العمل ويغيّر خريطة الجحيم للفنان بوتشيلي «من وحي دانتي»، وأبيات دانتي الأصلية في «الكوميديا الإلهية»، التي كتبها على قناع الطاعون الأسود، كممارسة تمثيلية يستعين لتصويرها بكاتبه الأثير «دانتي». يطلب من المينداسيوم «تسليم» الفيلم الذي صور فيه جحيمه الجديد - الذي اقتبسه من عالم الجحيم لدانتي- والقناع الذي «عدل» عليه أبياته الشعرية إلى سينسكي، ولكن ليس قبل صباح اليوم المقبل. ولكن حين علمت سينسكي بانتحار زوبريست، استخدمت نفوذها لفتح الخزانة التي وضع فيها زوبريست سره الأكبر، فوجدت فيها جهازاً أسطوانياً مع رسالة لها، ولكنها لم تفهم الفيلم والخريطة، فاستعانت بلانغدون وعرضت عليه مشهد الفيلم، الذي يظهر كهفاً به بحيرة حمراء، كانت هي المكان الذي خبأ به زوبريست وباءه، الذي كان مكمن البحث المستحيل من جميع أطراف الحدث الروائي.. بعد ذلك تدخل سينسكي في لعبة بحث عجيبة عن سيينا ولانغدون، وفي اللحظة نفسها يرسل العميد برودم عملاءه لتعقب سينسكي. يحصل لانغدون وسيينيا على قناع دانتي من أحد المتاحف داخل كاتدرائية دانتي الشهيرة، وفيه يجدان أبياتاً شعرية معدلة لقصيدة دانتي بصياغة «زوبريست» ذاته. «اركع في الموزيون الذهبي للحكمة المقدسة/ وضع أذناً صاغية على الأرض/ لتسمع خرير المياه/... ابحث عن دوق البندقية/ الذي قطع رؤوس الخيل/ واقتلع عظام العمياء». وعلى إثر ذلك ينتقل لانغدون وسيينيا للبحث عن قبر الدوق «انريكو داندلو»، وهناك يشهد القارئ جولة فاتنة في «بازلك سان مارك» وساحتها وكنيستها العريقة، وقصر الدوق «الذي اقتلع عظام العمياء»، ولكن لانغدون يستشعر - بعد استغراق عميق في أبيات زوبريست - أن المكان الذي خبأ به زوبريست وباءه، والذي جعله مكاناً أولياً لانطلاق فايروسه المخيف ليس في البندقية كلها، وإنما داخل بقعة غامضة في «إسطنبول»، ويصادف ذلك انكشاف سر سيينيا ووفائها التام لمبادئ أستاذها ومعشوقها صانع لغز الرواية «زوبريست». ليتحد في آخر حركية الحدث الروائي البروفيسور وسيسنكي والعميل برودوم، الذي استشعر أخيراً خطأه الفادح، وتبدأ الرحلة الأخيرة للبحث في إسطنبول البلاد الشرقية التركية، داخل المياه الغارقة تحت المسجد الأزرق هناك. حوارية عناصر السرد: كان الروسي الهائل شكلوفسكي يردد أن «العمل الفني يدرك من خلال علاقته بالأعمال الفنية والاستشهاد إلى الترابطات التي تقيمها في ما بينها»، الرواية كانت وافية تماماً لذلك الارتباط الغارق في الدهشة بين النصوص الفنية. جوقة هائلة بين الفنون ببعضها وبين أجناسها المتعددة داخل الفن الواحد: كوميديا دانتي الإيطالية كانت ملهمة لكثير من الآثار الفنية بتجلياتها المتنوعة، فمن أثرها الساكن بين عالم السمو والجحيم كانت لوحة الفنان الإيطالي بوتشيلي التي تزدهي بها جدران قاعة فاساري في فلورنسا.. موسيقى فاغنر.. تشايكوفسكي.. منحوتة رودان التي تحمل اسم الظلال الثلاثة.. الجدارية الأيقونية لميكيلينو التي تصور دانتي واقفاً خارج جدران فلورنسا حاملاً نسخة من كوميدياه الإلهية.. قصيدة دانتي لمايكل أنجلو وكذلك لوحة أنجلو «يوم القيامة».. جدارية ليوناردو دافنشي.. تحفة داميان هيرست.. القصيدة ذات الألفاظ الموغلة في الحنين لدانتي التي كتبها زوبريست. ويمكن اكتشاف بقية جوقة الكرنفال الفني الحواري، سريعاً كالآتي: الفيلم الوثائقي للمخرج غوكسيل غولينسوي مصوراً الطوابق السفلية لجامع أيا صوفيا الغارقة بالماء... الجمال الخرافي لمآذن المسجد الأزرق في إسطنبول كان مصدر إلهام قصر «سندريلا» في عالم ديزني لاند العجيب.. الجو الذهبي في جامع أيا صوفيا، صور بدقة في عمل فني تشكيلي على يد الرسام الأميركي سينغر سارجينت.. وبجوار أيا صوفيا كان خزان المسجد الأزرق الذي خبأ فيه زوبريست سره الأخطر، تنبعث منه موسيقى كلاسيكية لفرانز ليزت، كان قد استوحاها من نزول دانتي للجحيم وعودته منه.. حيث كان كورس الأوركسترا ينشد مقطوعة من قصيدة دانتي: وليس أخيراً بالتأكيد ظهور قصر الدوق في سان مارك مقارباً لقصر الحمراء في الأندلس.. ويستمر ذلك الكرنفال صاخباً بين الشرق والغرب.. بين الجوامع الإسلامية والكاتدرائيات المسيحية. وبلا شك فإن جحيم براون كان بتلك العلائق الباذخة أحد تجليات الرواية المتعددة الأصوات التي توقف عندها ميخائيل باختين مديداً وهو يؤكد أنها «ذات طابع حواري على نطاق واسع، وبين جميع عناصر البنية الروائية توجد دائماً علاقات حوارية»، فضاءات الجحيم لا تكتسب قيمتها الفنية بكونها مسرحاً كبيراً، تؤدي عليه الشخصيات عرضها الكبير، وإنما تكتسب قيمتها من ذاتها.. من أصدائها وآمادها وروائحها والطقوس التي تجري عليها.. حتى لكأنها «سمرقند» أمين معلوف.. أو «دير الرهبان» الذي تدور أحداث رواية «اسم الوردة» لامبرتو إيكو داخل ممراته وأنفاقه وساحاته التي لا تشبه غيرها. أرجاء فلورنسا - بحسب الرواية - لا يمكن أن تجد لنداءات أبراجها وكنائسها وساحاتها ودروبها صدى تأثيرياً، حتى في الأماكن التي تقاربها بين المدن الأوروبية العريقة. وبالطبع فإن البندقية في الرواية تتوافر على كثير من ألق الحنين لأماكن لا تغادر الذاكرة أبداً. ومن جهة أخرى فإن المكان في الرواية يتناغم بشدة مع العالم الداخلي للشخصيات. فثمة جدلية تتناسب باطراد بين أجواء «فلورنسا - البندقية - إسطنبول»، وبين شخصية البروفيسور الغارقة في الفنون والرموز، وشخصية سيسينيا ذات المواهب العقلية، كموهبة وعقلية العقول الموهوبة التي صاغت عوالم تلك الفضاءات «ابتداء من عصور النهضة الأوروبية»، إضافة إلى أن الثراء الرمزي لمعالم تلك الأصداء ينسجم مع قدرات سيسنيا الخارقة على فك الشفرات وحل الألغاز الممعنة في الغموض.. وهكذا.. كما أن ثمة تناغماً أخاذاً بين تلك المدن بمعالمها وتاريخها، والحدث الكلي للرواية، الذي لن يجد له مكاناً في كل العالم أكثر ملاءمة واستيعاباً من الفضاءات التي تلهج بالسحر والفن وانبعاثات الروح، في تلك المدن الثلاث. ومن منطلق آخر فإن المتلقي لهذا العمل يجد أمامه بانوراما مدهشة من أكثر الأماكن إثارة في الكون الرحيب.. فمن منا لا يريد أن يقرأ صياغة بألفاظ السرد عن «مدرج بوبولي» الذي شهد أول أوبرا في التاريخ؟ أو على وجه الدقة.. من من القراء لا يستمتع وهو يقرأ عن «مغارة بونتالينتي» أو «جادة ميكافيللي» أو حدائق «بوبولي» أو أشهر جسر للمشاة في العالم «بونتني فيكو» أو ساحة سان مارك في البندقية وكنيستها العريقة سانتا ماريا! الثراء المعرفي والفني والتاريخي نجدها على طبق من حنين وألق! الزمن في الرواية التي تجري أحداثها بين ثلاث مدن وهي فلورنسا والبندقية، ثم إسطنبول شرقاً لا يتجاوز يوماً واحداً... وهذا «الاختزال» الذي «لعب» به دان براون على مسألة «الزمن المضغوط» يسجل قيمة فنية، اختزل فيها الكاتب أحداثاً هائلة من الحياة والموت، والبحث المستميت عن الثيمات والأسرار المختزنة داخل المعابد والمتاحف والحدائق في فترة «مكبسلة داخل لحظة روائية تقارب ال24 ساعة». تقنية الزمن في الخطاب الروائي ليست لعبة تقنية هدفها التعمية على القارئ.. إنه «موقف من الزمن»، يبرز هذا الموقف داخلياً «على صعيد الخطاب»، وخارجياً «في علاقته بالنص» وفي ارتباطه بالقراءة. هذه اللحظة الروائية البالغة التكثيف تنفتح على أزمان ماضية سحيقة، وأزمان ماضية قريبة «تتعلق مثلاً بحياة الطفولة والصبا لدى بعض الشخصيات»، كما أنها تنفتح على زمن حاضر مشبع بالتجارب، وزمن مستقبل لا يختص بزمن شخصيات الرواية فحسب، وإنما بالزمن البشري كله. * ناقد سعودي.