في كل المرات التي صادفت فيها اسم الفائز بالبوكر، ماعدا مرات قليلة، ضبطت نفسي أتمتم، ثم أصرخ بصوت عالٍ: متى يأتي دور الروائيين؟ وعندما قابلت أحد معارفي ممن عملوا في لجان تحكيم الجوائز، وسألته سؤالي: متى يأتي دور الروائيين؟ أمسك يدي، ونظر نحوي بإشفاق، كأنني ابنه الضال، وقال: هل قرأت النسخة المثال للرواية الفائزة؟ فاستغربت قوله، لكنه استدرك، نحن نطبخ من الروايات المتسابقة نسخاً أخرى غير التي تقرأونها، ونسمّيها على سبيل التعمية بالنسخة المثال، وهي الاسم الذي اقترحه مؤسس الجائزة. وفي سبيل صناعة هذه النسخة، نعمل وفق مبادئ وضعها الآباء الأوائل الراعون للجوائز: 1- أن نتجنب كل ما يؤدي إلى تعدد التآويل والقراءات، 2- أن نتجنب السماح للقارئ بالتحرر والخروج على النص، 3- أن نتجنب الخيال الخلاق واللغة الخلاقة 4- أن نحذر السياسة الغامضة لأنها ذات طبقات بعضها معلوم وبعضها مجهول 5- أن نؤيد الروايات التي يفهمها كل القراء بطريقة واحدة، ثم نعمل وفق تعليمات طارئة أخرى تتناسب مع زمن الجائزة، كأن نستبعد اسم فلان ونتواطأ مع أسماء تقال لنا شفاهة من دون قصد، أو تقال لنا صراحة وبقصد، ونراعي أحياناً بعض دور النشر ذوات النفوذ. عند ذلك تذكرتُ دار الشروق، واستعذت بالله، وكأن صاحبي سمع استعاذتي، فلكزني وقال: وغيرها. لذلك عندما أعطاني وحيد الطويلة مخطوطة «باب الليل»، قرأتها، وانتظرت، ولما أهداني المطبوعة قرأتها، وانتظرت، ولما ذهبت الرواية إلى البوكر، تمنيت عليه أن يأتيني بالنسخة المثال، لكنه رمقني بدهشة، ولم يصدق أنني أستهين به، أو أستهين بنفسي. ابتسم ثم تركني من دون جواب. عندها جلست بهدوء، وفكرت في أن تكون رواية وحيد، هي تمريني الأول الذي أتعلم فيه كيف أكون عضو لجنة تحكيم، لعلني أصبح عضواً ذات يوم. ووضعت المبادئ أمامي، وتخيلت التعليمات الطارئة، ثم أمسكت بيدي اليسرى «باب الليل»، وباليمنى قلماً مسنوناً حاداً، وجلست على الكرسي، وصففت أمامي أربعة كراس لأعضاء اللجنة الآخرين الذي توهمتهم، وبينهم الرئيس، ثم شرعت في العمل. باب مفتوح أول ما لفت نظري أن الرواية لها باب واحد كبير اسمه باب الليل، قررت أن أبقيه مفتوحاً، بعد ولوجه، رأيت خمس عشرة غرفة، لكل غرفة باب له اسم، وكل الغرف تدور على آلة دوّارة، وتغيّر مواضعها بحسب رغبة الداخل، كأنه فضاء مفتوح. تذكرت المبدأ الثاني، قلت: سأغلق الفضاء، وأعطّل الآلة الدوارة، وأنزع أسماء الغرف، وأضع مكانها أرقاماً متسلسلة، وأتجاهل أحاديث النقاد والأدعياء عن البنية المفتوحة، التي تتيح للقارئ أن يكون شريك المؤلف. قلت لنفسي، أنا عضو لجنة التحكيم: هذه مساواة قصيرة النظر، لأن قداسة المؤلف سببها عجز القارئ عن مشاركته، لكنني تذكرت ما يقولونه عن البنية المفتوحة، وعن أنها أرض خصبة، ومع كل قراءة، تخرج منها شجرة تأويلات تضيق وتتسع وفق زاوية النظر. تأففت وتجاهلت أقوالهم، لأن مبادئ الآباء الأوائل تفضّل أن يدخل القارئ الرواية بغير خيال، وأن يجلس في الأماكن التي يحددها المؤلف، وأن لا يخرج إلا بأمره، هكذا تتحقق للروائي سلطاته. وإذا كانت لغة وحيد قد أعجبتني في قراءاتي السابقة لروايته، فإنني الآن كعضو لجنة تحكيم أتململ وأراها لغة تتميز بالإلحاح على جانبها الصوتي، وسوف أعتبر ذلك آلة تشويش، وسوف آمر نفسي بالقراءة الصامتة. المبادئ التي أعمل الآن في ظلها تتوجس من موسيقى اللغة ومن شعرية الرواية، فهؤلاء الحمقى يعتقدون أن شعرية الرواية تتحقق بغير طريقتنا المألوفة في مطاردة الاستعارات والمجازات، كما يعتقدون أن بعض سطور أو صفحات موزونة داخل جسد الرواية، أقرب لتزييف الشعرية منها إلى تحقيقها. فجأة ذكّرني العضو الجالس على الكرسي الثالث بروايات إبراهيم نصرالله، شكرته بإخلاص، فنبهني إلى أن رواية وحيد تسعى وراء هواجس أخرى مركّبة، بخاصة عندما يتصور أن الأسوار العالية التي كانت تفصل بين الأنواع الأدبية، وعلى رغم سقوطها، مازالت جذورها تسمح بشعرية مختلفة لكل نوع. العضو الثاني قال لي: إن خطيئة وحيد الأولى أنه يبدأ شعريته بالإلحاح على الجانب الصوتي، وقد أخمدناه، وخطيئته الثانية أنه على عتبة بابه الأول، باب البنات، يكتب عبارته: كل شيء يحدث في الحمام، كذلك يكتبها على عتبة باب الفتح، ثم يختتم بها الرواية، كأنها علامته، وكأنه يحاصرنا بها، لكننا سنمحوها في المرتين الأخيرتين. سألني: أليس كذلك؟ ابتسمت وتذكرت أيام كنت قارئاً فقط، أنني رأيت هذه العبارة طرف خيط يضبط الإيقاع، وطرف نظر يهبني رؤية ما لا أرى، لكنني اعتذرت عن ذوقي القديم، وسبقتهم إلى محوها، فأنا الآن عضو لجنة التحكيم. رئيس اللجنة الجالس في كرسي الصدارة، سألنا عن الفارق بين كتابة البورنو وكتابة الإروتيكا، فسارعت بالإجابة: البورنو سياسة واضحة والإروتيكا قارّةٌ من السياسات الغامضة. تنحنح الرئيس وقال لي مازلت عضواً جديداً، صحيح أن «باب الليل»، على رغم ما فيها من بهجة الإروتيكا إلا أنها تنشع بالخوف والهزائم، وأمرني أن أمحو بنفسي كل مواضع الإروتيكا، ثم سألنا عن السياسة، وعندما سارعت أسكتني بيده، وقال: إن السياسة تنشع كالعرق من جسد باب الليل كله، إنها تزيح ستاراً وتظهر ثم تختفي وراء ستار آخر. هل تحسبونها مثلما أحسبها، إنها سياسة روّاغة وإنها مثل الوحش السري؟ الغريب أن «باب الليل» استطاعت ترويض هذا الوحش الذي غلب الكثيرين، ومبادئُنا لا تسمح بترويضه، مبادئنا تحب السياسة الواضحة. فهلوة سياسية قال العضو الأول: السياسة التي تشبه الفهلوة، قال الرئيس: نعم، هل تذكرون رواية إبراهيم عيسى في جائزة العام الماضي؟ كانت الأجدر بالجائزة، لولا أن الحمقى هاجمونا، سنفاجئهم بقائمة هذا العام التي ستمتلئ بالسياسة الفهلوة. رفعت يدي، قال الرئيس: تكلم أيها العضو الجديد، قلت إن كل باب من أبواب الرواية (باب الليل) يبدو وكأنه قطعة منزوعة من واقع صرف، والأبواب عندما تتضامّ وتلتحم تتحول إلى واقع فوق الواقع، واقع متخّيل وسائل ورجراج، سمعتهم يزومون، قلت: واقع رؤيته ليست ذكورية ولا نسوية، إنها رؤية إنسانية متعادلة على ثنائية الرجل والمرأة. وقبل أن يزوموا أكثر، سخرت من الإنسانية واقترحت عليهم أن نقوم بحذف بقية الرواية التي تمتلئ أيضاً بالحكايات الصغيرة التامة والناقصة، والسخريات الخالية من الضغينة، والكلمات الآتية للتوّ من أرحامها المفقودة كأنها تأييد للإيقاع والصوت المحذوفين. سمعت تصفيق الأربعة، تخلّله قول الرئيس: أنت تتعلم بسرعة أيها العضو الجديد. في الأخير أصبحت النسخة المثال ل «باب الليل»، نسخة بيضاء فاستبعدناها، لأن الروايات التي تصل إلى القائمة هي الروايات التي تتطابق نسختاها، المثال والمطبوعة، أو تكادان. عند ذاك اكتفيت ورميت رواية وحيد وأزحت الكراسي الخمسة، والقلم المسنون، وخرجت من دوري كعضو لجنة، واغتسلت من النجاسة التي أحسستها، وعدت إلى طبيعتي. وتذكرت أنه في نهاية كل عام وبداية الذي يليه، يبدأ موسم صيد الجوائز، وتبدأ الاتصالات والزيارات والوشوشات والوشايات. والجوائز في الأصل آلة تدجين، وهي ليست دائماً للمكافأة على الإجادة، إنها غالباً للمكافأة على الخضوع، وجائزة البوكر بدأت بزخم طغى على ما سواها من الجوائز، لكنه سرعان ما تبدد، ربما بسبب الرغبة في رجرجة الحياة الأدبية وزلزلتها، بأسماء جديدة ولو زائفة، وربما بسبب فضائحها منذ أولها، عام التهديد والوعيد بالبيانِ الشديد في حال استبعاد بهاء طاهر، وعام انسحاب شيرين أبو النجا، وعام البامبو وجلال أمين وإبراهيم عيسى، وعام «تُرمى بشرر»، وعام «الفيل الأزرق» وأخواتها. قلت ذات مرة إنني أقرأ الروايات كي أكتب الشعر، ولذلك أفرح عندما ينجو الروائيون من الفخ المنصوب، ومثلما فرحت بنجاة هدى بركات والسالمي والبساطي وحسن داود وإلياس خوري، هاأنذا أفرح بنجاة وحيد الطويلة وآخرين أتحرج من ذكرهم، وأكتشف أنني مثل طفل أُحب الأشخاص الذين لم يحصلوا على جوائز، دوستويفسكي وتشيكوف وتولستوي والمازني، لأنهم يذكرونني بما قالته أمي: يا ولدي أعظم جائزة هي ما يمنحه الله للإنسان، بعدها انتظر أبي حتى بلع ريقه وقال: الله قوي وعادل يمكنه أن يمنح الجميع كل شيء، والإنسان ضعيف وعاجز عن العدل ولا يستطيع إلا أن يمنح البعض، وصمت قليلاً ثم أكمل: أعظم جائزة هي ما يمنحه الإنسان للإنسان. لكن الوقائع أكملتُ كلام أبي: باستثناء جوائز الدولة المصرية، وجوائز المؤلفة قلوبهم وجوائز من استعانوا بمماليك وزارة الثقافة، صحافيين وأكاديميين وروائيين وخراتيت، وجائزة خلّي بالك من زوزو، وجائزة الكونكان وجائزة البوكر، البوكر العربي وجائزة ويسألونك عن البوكر، البوكر العربي الركيك.