لئن لم يرق لبعض المثقفين السعوديين قرار لجنة تحكيم جائزة «بوكر» العالمية للرواية العربية، الذي تقاسم بموجبه الكاتبة رجاء عالم والشاعر المغربي محمد الأشعري الجائزة، في دورتها الرابعة، إذ تقبلوه على مضض، فإنه عنى في الوقت نفسه قدراً من الصدقية، جهدت اللجنة في تحقيقه، على الأقل من خلال اختيار صاحبة رواية «طوق الحمام»، التي رسخت مشروعاً روائياً تميز بسماته الجمالية وموضوعاته التي تنهل من الواقع وما وراءه، من اختلاط الثقافات وتعددها، ومن أجواء مكة والحجاز الموغلة في القدم. في رأي هؤلاء، الذي سجلوه سريعاً في المواقع الإلكترونية حالما أذيع النبأ، أن رجاء كانت جديرة بالفوز منفردة، أو هي الفائزة الوحيدة وفقاً إلى قناعاتهم، وأنه تم إضافة الشاعر المغربي ترضية للرواية المغاربية، التي تردد أن الجائزة ذاهبة إليها، من جهة، ونكاية من ناحية أخرى ببن سالم حميش، وزير الثقافة المغضوب عليه والذي تشهد وزارته مقاطعة مثقفي المغرب، والمدرج اسمه في القائمة القصيرة. واعتبار قرار المناصفة في غير محله، يرجعه عدد من الكتاب، إلى أن رواية رجاء عالم التي حشدت فيها جماع خبرتها الجمالية والحياتية، لا تقارن ب «القوس والفراشة» (الروايتان صدرتا عن المركز الثقافي العربي) التي تهيمن عليها اللغة الشعرية والتداعيات، وترتهن إلى أحد المواضيع الرائجة هذه الأيام، ، كما عبروا، وهو التطرف، الداعمة الوحيدة لرواية الأشعري،»، التي تعد الثانية له وتأتي بعد سنوات طويلة من روايته الأولى «جنوب الروح»، تلك الرواية التي يفضلها بعض النقاد المغاربة على الجديدة. وبعيداً مما سيثيره قرار «المناصفة» من تساؤلات واستفهامات، إذ يبدو أنه سيفتح الباب واسعاً أمام قرارات «توفيقية»، من شأنها إنقاذ لجنة التحكيم في الدورات المقبلة، من الحرج والضغوط، في حال صعب عليها الحسم، فإن رجاء، التي كتبت حتى الآن تسع روايات وصدرت أول رواية لها وعنوانها «أربعة صفر» (نادي جدة الأدبي) عام 1987، تنتمي إلى الموجة الروائية، التي شغلت السعوديين وسواهم، خلال السنوات القليلة الفائتة، لناحية الحماسة في التعبير وكشف المسكوت عنه وفضح تناقضات المجتمع، لكنها في الوقت عينه، هي تشتغل خارج هذه الموجة، من خلال ذلك الاشتغال الدقيق والمتأني، الذي لم تعرفه غالبية روايات الطفرة، ويتأكد من خلال استراتيجية نصية، وعبر طائفة من الخيارات الجمالية والمقترحات السردية، التي تقدمها في أعمالها وأضحت هوية أصيلة لها. وبالتالي ففوز رجاء، التي تعد ثاني اسم سعودي وأول كاتبة عربية تنال هذه الجائزة، ليس انتصاراً للرواية السعودية، التي يكتبها اليوم الجميع من دون استثناء، إنما تكريس للرواية الجيدة، الرواية التي لا تقبل على الفضح والصدامية لذاتهما، ويتمثل همها الرئيس في طرح نص خلاق ورؤية روائية تضيف للمنجز الروائي كله، بفتحها «السدود بين العصور واستلهام التاريخ لقراءة الحاضر واستلهام الحاضر لإعادة قراءة الماضي». وإذا كانت رواية «ترمي بشرر» ووجهت بآراء متناقضة حول أحقيتها بالجائزة، باعتبار أنها ليست أفضل أعمال عبده خال، بل لم يكن فوزها متوقعاً وجاء مفاجئاً للكثير، فإنه يتعين على «طوق الحمام» هذه المرة تصحيح الصورة بالنسبة للرواية التي يكتبها بعض السعوديين، وأن تعيد الأمور إلى نصابها، من خلال ما حققته من فنية عالية وبنية مركبة ومتعددة الطبقات، حتى وإن كان مسألة فوزها غير واردة، ليس لمأخذ عليها، إنما لأن عبده خال حاز الجائزة في الدورة الماضية، وكأننا إزاء توزيع جغرافي، وهو ما دحضته لجنة التحكيم. عرفت رجاء عالم الجوائز العربية والدولية باكراً، حازت «جائزة ابن طفيل للرواية» من المعهد الإسباني العربي للثقافة، وجائزة المنتدى الثقافي اللبناني في فرنسا، دورة خالدة سعيد، غير أنها لم تنجرف إلى مهاوي الحضور الإعلامي ومزالقه، إذ بقيت بعيداً تضع مسافة بينها وبين كل ما هو خارج كتابتها. فالجوائز بالنسبة لها «درجة من درجات التعارف الإبداعي، تَوَقُّف عينٍ قصدية لإلقاء نظرة تماهٍ على نتاج ما». وهي، بقرار صارم منها، تكاد تكون غائبة عن المهرجانات ومحافل الأدب، العربية والسعودية، على وجه الخصوص، إضافة إلى عدم تعاطيها مع الصحافة الثقافية، تعيش في ما يشبه العزلة الاختيارية. في روايتها «طوق الحمام» يختلط الميتافيزيقي بالواقعي والأسطوري باليومي، والمقدس بالمدنس، كل ذلك تحكيه النساء للنساء والرجال معاً. ومن خلالها تواصل الغوص في مجهول المجتمع المكي، كاشفة فضاءاته، التي تتنوع وتتعدد، تبعاً للثقافات والعوالم التي يتحدر منها أناسه وقاطنوه. تختار رجاء عالم هذه المرة مدخلاً مغايراً إلى عالمها المكي الأثير، مدخل الرواية البوليسية، أو الاتكاء على الجريمة، لكن ليس وصولاً إلى القاتل، الذي يبدو التفتيش عنه محظ ذريعة، إنما للقبض على فسيفساء مجتمع مكة، إذ تجوب الرواية حاراتها العتيقة وتتجول في أحيائها القديمة، التي يهددها العمران الحديث بالطمس واندثار الهوية واختفاء روحها وحيويتها. وهاجسها، الذي لا يبدو أنه إلى انتهاء بعد كل هذه الروايات، هو مكة وفضاءاتها الروحانية، مبتدأ رواياتها ومنتهاها، «كلما توفي رجل من رجالات مكة أو امرأة من نسائها الأسطوريات شعرت بفقد حقيقي»، تقول «لأن معهم تذهب مكة الفريدة، أكتب من ذاكرة كل هؤلاء، وألاحق تلك الذاكرة، التي تكفي أحياناً كلمة أو حكاية صغيرة لتلهمني كتاباً، أتعرف كيف تكون في الحب، هكذا أنا مع مكة، نظرة منها تكفي لكتاب ... في كتابتي الأخيرة أقول إنني ألقي نظرة وداع على مكة... لكن هناك حالات لا يمكن وداعها، قد نعطيها ظهورنا، نتظاهر بأننا لا نلتقيها لكنها تسكننا في كل جهاتنا وتوجهاتنا». هنأ وزير الثقافة والإعلام عبد العزيز خوجة، رجاء عالم عبر صفحته في «فيس بوك» بفوزها بجائزة البوكر، مؤكداً أنها: أدبية رائدة وقد ظلمها الإعلام، وآن أوان تصحيح هذا الخطأ، وأؤكد أنها ستلقى كل تقدير وتكريم لأنها تستحق ذلك وأكثر». ويقول الناقد عبد الله الغذامي: ما فرحت والله بهذه البوكر لأنني املك رصيداً عالياً من الفرح والفخر والانتماء مع اسم هذه الراقية رجاء عالم، ومنذ ربع قرن وأنا كذلك لم يخب لي فيها ظن قط ولم أستح منها قط ولم اعتذر لها قط، ولكنني في كل مرة يرد اسمها بحضوري في أي بقعة في العالم، اشعر أنني أتنسم رائحة التاريخ ولذا حضرت عندي في كل قول قلته في عدد من كتبي وفي كل لقاء لي ... وأقول إن رجاء ليست البوكر ولكنها الإبداع»، لافتاً إلى أن ما يجلب الحديث عنها «ليس هو الجائزة ولا الظرفية ولكنها اللغة التي اختارت هذه المكية، لتكون الروائية التي تدخل كل أبواب التاريخ وتمنحنا كلنا صوتاً لا يحتاج إلى مناسبات، ولكنه صوت أبدي يملك كل الظروف ولا يتحدد بظرف واحد». وأشار إلى أن رجاء منحته «فخراً ثقافياً لم ينقطع قط، وظلت عندي مثالاً اسوقه أمام طلابي في الجامعة، وفي كل مقام يجمعني بأي مثقف في هذه المعمورة، وهكذا هو العمل العميق والإبداعي يحيط به ولا يتوسلك ولا تتوسل له». وتقول الناقدة لمياء باعشن إن فرحتها بفوز رجاء، «شابها شيء من الخذلان وذلك لتقسيم الجائزة على اثنين، فرجاء قامة في فن الرواية، وتستحق فعلاً أن تنفرد بالجائزة ولا يشاركها فيها أحد، حتى لو كان وزيراً سابقاً. أنا لا أعرف إن كانت اللجنة قد استكثرت فوز روائية سعودية بالجائزة الأولى منفردة، أم أن لدى اللجنة رغبة في التنويع الجغرافي للجائزة، بخاصة أن سعودياً آخر قد فاز بالجائزة في العام السابق، لكن في كل الأحوال كنت أتمنى لو انفردت رجاء عالم بالجائزة نظراً لتجربتها الروائية الطويلة وغزارة إنتاجها المتميز ونضوجها الفني المتصاعد وحرصها الدؤوب على تطوير أدواتها السردية». في ما يقول الروائي يحيى امقاسم أنه «كان لزاماً على الجائزة أن تذهب لرواية «طوق الحمام» لرجاء عالم، أو «صائد اليرقات» للسوداني أمير تاج السر، فذلك أدعى لاستقلال هذه الجائزة وتخليصها من كل الشبهات التي تطالها مع كل دورة، وسيوثق مكانها في المشهد ويعمق ضميرها أمام العالم، هذا دون إبخاس الأعمال الأخرى حقها في الفوز وجمع أصوات الذائقة حولها داخل اللجنة»، مشيراً إلى أن لجنة التحكيم، «تمسكت بمبدأ التوزيع الجغرافي، هذا المبدأ الذي أشاعه الكثير عندما فاز عبده خال من الخليج، ولكون الاسم الأهم يحضر بعمل يليق بتاريخ رجاء عالم ويؤكد سطوتها الإبداعية، فقد كان لزاماً على الجائزة ذاتها أن تختار هذه الروائية الكبيرة منفردة، إلاّ أن بعض الأعضاء شاء أن ينتصر من طريق المناصفة ويحضر محمد الأشعري لأهمية عمله قطعاً». ويرى الروائي عواض العصيمي أنه بفوز رواية سعودية للمرة الثانية بجائزة بوكر، «يشير إلى مستوى لافت من الاهتمام بالرواية السعودية التي قيل حول قيمتها ونضوجها الكثير، ويؤكد استواء السرد الروائي المحلي على أفق الرواية العربية في أكثر من عاصمة عربية سبقت غيرها في التجربة والخبرة». ويقول: لئن دار الكثير من الجدل حول رواية «ترمي بشرر» وأحقيتها بالجائزة التي نالتها العام الماضي، فإن دخول الكاتبة القديرة رجاء عالم في ميزان الجدارة بالمركز الأول، يضع المشهد الأدبي المحلي في ذروة الحديث عن المتانة الروائية والخبرة السردية الطويلة والمغامرة الكتابية العالية التي تميزت بها رجاء عالم في كل أعمالها».