أن يجري الاعتداء على مكتبة بالحرق هو عمل سيء وجاهل ومدان، وأن تكون مكتبة ثقافية، وإن كانت تجارية، فهو عمل فظيع، خصوصاً إذا كانت تقع في مدينة طرابلساللبنانية التي لطالما افتخرت أنها كانت صاحبة سجل عريق في كثرة مكتباتها الثقافية، التجارية منها والعامة كما الخاصة، إضافة إلى مكتبات الأرصفة، علماً أن معظمها أقفل في العقدين الأخيرين نتيجة التراجع الإجمالي في الإقبال على القراءة كما نتيجة غلاء سعر الكتاب بالمقارنة مع تراجع الإمكانية الشرائية للطبقات الوسطى التي يتشكل منها العدد الأكبر من القراء، بالإضافة لأسباب أخرى متنوعة بعضها يتعلق بتدهور واقع المدينة التي لم تعد عاصمة فعلية للشمال اللبناني وحاضرة أساسية للبنانيين وللشمال السوري، كما كانت من قبل. ولا بد من الاعتراف بأن طرابلس تشهد تدهوراً متسارعاً في نخبها الثقافية مما ساهم في تراجع الإقبال على القراءة، بالإضافة إلى تحول الإنترنت وسيلة أساسية من وسائل الثقافة والتواصل إلى جانب انتشار الفضائيات وحفلات التوك شو. لم تشكل مكتبة السائح التي تعرضت للاعتداء الآثم مقصداً دائماً لليساريين القدامى كما كانت مكتبة الشهيد مخائيل فرح الذي طاولته يد الغدر في الحرب الأهلية في محاولة يائسة آنذاك لكسر شوكة اليسار والشيوعيين والذين شكلوا حاجزاً كبيراً أمام تحويل الحرب الأهلية في طرابلس والشمال إلى حرب طائفية في فترة زمنية معينة، قبل أن ينجح النظام السوري وقوى التطرف من كل الضفاف في تطييف ومذهبة هذه الحرب اللعينة. إلا أن مكتبة السائح اكتسبت مكانة كبيرة نظراً لاحتوائها على إرث كبير من أمهات الكتب والمجلدات والمنشورات بما فيها الكتب الإسلامية والمسيحية، كما احتوت على مخطوطات فضلاً عن كتب ومراجع ومنشورات نادرة، وقد نجح صاحبها في تأمين الكتب المفقودة ما جعلها مقصداً للباحثين وملجأ لطلاب الدراسات العليا في لبنان والخارج، ولي شخصياً تجارب متعددة في هذا المجال في تأمين بعضها لأصدقاء في لبنان والخارج. وحين نعلم أن صاحب المكتبة هو الأب إبراهيم سروج خادم رعية أرثوذكسية، تصبح للحدث أبعاد أخرى، على رغم أن سروج صاحب سجل نضالي وعروبي وشعبي بغض النظر عن منطلقاته الفكرية والسياسية التي تظلل حركته النشيطة في الفيحاء الطرابلسية. والمكتبة لها قيمة تراثية لما تحتويه من أمهات الكتب التي تطاول تاريخنا بمحطاتها المتنوعة وحقباته المتدرجة، والذي يبدو وكأنه يقبع على رفوفها، كما في دهاليزها. وما يزيد في رومانسيتها، هو أن موقعها وبناءها يشبه محتوياتها، ذلك أنها تقع في مبنى سيار الدرك القديم والذي له قيمة معمارية وتراثية كبيرة، وتتشكل من عقد قديم في منطقة النورى الأثرية، على تقاطع الحقبات المعمارية والتراثية الطرابلسية، وتجاور شارع الراهبات والذي استبدلت فيه مدرسة الراهبات الجميلة ببناء كامل القبح، كما تجاور شارع الكنائس الذي يحتضن معظم كنائس المدينة والتي تبقى شامخة على رغم كل ما مر على الفيحاء من معاناة. وتقع هذه الشوارع في محاذاة السرايا العتيقة التي تتوزع منها حقبات، ذلك أنها بوابة المدينة المملوكية الخالدة، كما أنها توصل هذه المنطقة بالتل والنجمة وساحة الكورة والزاهرية وصولاً لمنطقة النهر، والتي كانت تشبه قطعة من البندقية قبل أن ترديها معاول التحديث الكاذب وتستبيحها قوى الأمر الواقع بعد أن شوهها التنفيذ البشع والفاسد والمتخلف لمشروع الإرث الثقافي، والذي كان يهدف إلى إبراز جانب من الوجه المضيء الذي كانت عليه هذه المنطقة التاريخية، والتي احتضنت الطرابلسيين على ضفتيها، كما في المرتفعات المجاورة والمتقابلة مع قلعة الكونت ريمون دي تولوز الصابرة على ضيم الزمان. وعلى بعد أمتار بسيطة من المكتبة يقع الجامع المنصوري الكبير والذي يشكل تحفة رائعة وشاهداً مهماً على روعة العمارة الإسلامية، كما شكلت ساحته منطلقاً لتظاهرات الطرابلسيين، وخصوصاً اليساريين والشيوعيين قبل أن يستريحوا ويستلقوا ويختبئوا من أصحاب الترانشكوت الكاكي في مقاهي وزوايا عزمي وثنايا مار مارون والثقافة أو في دور السينما الفارهة أو في مقهى التل العالي حافظ ذكريات أهالي المدينة منذ أواخر القرن التاسع عشر. وتتعدد الروايات حول الحادث المفجع، وتجنح باتجاهات تساهم في تنميط صورة المدينة وإلباسها لباس التطرف الأعمى، على رغم أنها لطالما احتضنت كل الناس وتباهت بتنوعها، ويحاول البعض استغلال الحادثة والنفخ في رماد التعصب ظناً منه أنه يمكن الإجهاز على المدينة الصابرة والمظلومة والتي تعاني من استهدافات من خارجها، كما من بعض الطارئين عليها والمرتبطين بأجندات خارجية، غير غافلين طبعاً عن التقصير الفادح من قبل قواها السياسية ونخبها، كما من أجهزة ومؤسسات الدولة التي لطالما تعلق بها الطرابلسيون من طرف واحد. وبغض النظر عن خلفيات الاعتداء الكريه، سواء كانت تجارية أم طائفية أم شكلت استكمالاً للاستهدافات التي تطاول المدينة، كجولات الاقتتال والتفجيرات الإرهابية أمام المساجد والاعتداءات المشبوهة على الأفراد والممتلكات، وصولاً للاستباحة والشلل الاجتماعي والاقتصادي، فإنه ما من طرابلسي أصيل يعتدي على مكتبة، تشكل شاهداً من الشواهد القليلة الباقية بأن طرابلس كانت مدينة العلم والعلماء، كما أنه ما من مسلم أصيل، يمكن أن يحرق مكتبة ذلك، لأن الله خاطب الرسول الكريم بأن قال له «اقرأ». وعلى رغم الألم الذي اعتصر قلوبنا من حادث الحرق الذي لم يطاول إلا جانباً قليلاً نسبياً من الكتب، فإن الانتفاضة التي شهدتها المدينة ومن كل أطيافها وفئاتها، لهو خير رد على العابثين مهما كانت أسبابهم وارتباطاتهم، كما أن الإعلام عموماً شارك بهذه الانتفاضة ماسحاً عن وجه المدينة جزءاً من القذارة التي ساهم في انتشارها عبر التركيز المبالغ به على بعض مظاهر التطرف والتفلت فيها. فقد تدفق الطرابلسيون إلى المكتبة كالسيل العارم، وفاضت البيانات والتصريحات والوفود واللقاءات عن المألوف، ومشى الخوري سروج من كنيسة مار جرجس التاريخية إلى عرينه بشبه تظاهرة محاطاً من الأهالي الطيبين، كما اندفع الشباب والصبايا في عملية ترميم للمكتبة وكتبها، فضلاً عن تبرعات الكتب من أفراد وجماعات، ما جعلنا نعيد التأكيد بأن الحاضرة الشمالية ستظل عصية على الكسر مهما تلقت من ضربات قاسية، ذلك أن خيوط التنوع في نسيجها، وإن أصبحت أقل كثافة نتيجة ما مر على المدينة من أحداث، إلا أن هذه الخيوط هي التي تجعل النسيج جذاباً على ما يحلو لأهاليها التندر به، وربما هذا ما يفسر الاندفاع الكبير (وربما المبالغ به تمسكاً بالتنوع والعيش الواحد) لإضاءة شموع الميلاد في الساحات الرئيسية مع تدفق الأهالي وأطفالهم ومن كل الطوائف للاحتفال والمشاركة بنشاطات العيد في أكثر من منطقة وحي، مما يذكرنا بأنه لطالما كنا نحتفل بالأعياد جميعها سوياً في الحارات والأحياء الطرابلسية القديمة. وهذا يؤكد أنه مهما اشتدت سواعد الفتنة وتوسعت مناخات التطرف كرد فعل على الاستكبار والقهر والاستئثار، ستظل الكتلة الطرابلسية الأوسع متمسكة بالاعتدال والانفتاح ولن يقبل الطرابلسيون بأن يقبعوا داخل قلعة مغلقة، بل سيظلون متمسكين بطرابلس المفتوحة على الآفاق، رافضين القهر والتطرف وهما وجهان لعملة واحدة من عصر بائد.