جاء في الكتاب التراثي زهر الآداب وثمر الألباب عن إبراهيم الحراني أنه حج مع أمير المؤمنين هارون الرشيد. فدخل مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وبينما هو بين القبر والمنبر إذا برجلين، يتغنى أحدهما بأبيات من الشعر. يقول الحراني: فتخفّفت في صلاتي، ثم سلّمت وقلت: أفي مسجد رسول الله تتغنى! فقال: ما أجهلك! أما في الجنة غناء! قلت بلى! لعمري، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين! قال: أما نحن في روضة من رياض الجنة؟ قلت: نعم! قال: أترد على رسول الله قوله: «بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة»، فنحن في تلك الروضة؟ قلت قبح الله شيخاً ما أسفهه. فلمّا رأى ما نزل بي، قال: يابن أم، أنا والله أعرف بالله ورسوله منك! فدعنا من جهلك. ثم، استمر يتغنى بأبيات من الشعر. فقال له صاحبه وكان معه: أحسنت، ولو كان الرشيد حاضراً لخلع عليك ثيابه مشقوقة طرباً. فبلغ الرشيد ما وقع من الرجلين فطلب امتثالهما أمامه. وعندها عرف أن المغني هو ابن جريح فقيه مكة. وعوضاً عن الثياب المشقوقة طرباً، أغدق عليهما بالثياب الصحيحة، فهي كما قال الرشيد متبسماً: أبرك لكما. ثم، أمرهما ألاّ يعودا لمثلها، فجاءه الرد: إلا أن يحج أمير المؤمنين ثانية. فضحك الرشيد. والحادثة بالحادثة تُذكر. ومنها أخرى، لربما أوردتها هنا، وتحكي عن شيخ طرب بغناء جارية. فمر به رجل قيل من ولد علي بن أبي طالب. رضي الله عنه، وكرم الله وجهه. فعرف بحاله وأحب أن يمازح الشيخ فقال له: وأحسبك من الذين قال الله فيهم: «فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين». فأجاب الشيخ: لا يابن رسول الله، ولكني من الذين قال الله فيهم: «فبشِّر عبادِ، الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه». فضحك حفيد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأمر للشيخ بألف درهم. جميل أن نقرأ هذه القصص المعبِّرة المبثوثة في تراثنا. وأرجو أن تتسع صدورنا لها. فهي إن لم تقع بحذافيرها، فعلى الأقل فيها شيء وأشياء من الحقيقة كما جرت. ثم لا ننسى أنها من المنبع نفسه الذي نستقي منه أدلتنا وبراهيننا حينما يعوزنا الدليل والبرهان. فإن ضربنا بمصدرنا فهو واحد للجميع. والأولى أن نتعامل مع المبدأ، وليس مع فروع وتفاصيل تخرجنا عن جادة المبدأ. و«الزبدة» -كقولنا في دارج اللغة- أن القوم كانوا أكثر سماحة وطلاقة. وهذا هو المبدأ والباقي تفاصيل. أمّا مواضيع الدين والتديّن فلم تكن سيوفاً مسلطة على رقاب العباد كحالنا. ولا يعني قولي أن نضجنا ومرونتنا لا يختبرهما سوى غنائنا عند منبر رسول الله، أو تحت مِزراب الكعبة. إنما القصد أننا لو أقدمنا على شيء مماثل اليوم، أو أقل منه، لقامت الدنيا وظلت قائمة. وكأن شعوراً يطاردنا بحاجتنا الملحة إلى المزايدات والتسميع بمدى غيرتنا، على اعتبار أننا حماة الدين، ومن يقابلنا لا حماة له. والإشكالية أنه حتى في وجود المسؤول الفاهم في أصول الدين، أو حتى المواطن العادي ويكون ملماً بالمسألة الدينية التي يطرحها، فلا نتحرج في أن نشكِّك في كلامه ومحاولاته واقتراحاته ولو كان مجتهداً ومنطقياً. وهو أسلوب مهترئ لن يوصلنا إلى توازنات نحو الأنسب ولو كان في محيط أسرتنا، والبيت الواحد. وكل امرئ أدرى بحاله وقدرته ونيته. فلا عليه من تنظير القوم له، طالما أنهم لن يعيشوا معه نتائج خطبهم ونصائحهم. فالناس في تركيب أمزجتهم واحتمال قدراتهم، يختلفون ويتمايزون. غير أن هذا ليس بشيء في جانب ما يعتريهم من الظروف الطارئة التي تنهكهم وتفتك بأولوياتهم. فعلى الله وحده قصد السبيل، لا على البشر وأحكامهم التي يريدون أن تسري على جميع الخلق، بصرف النظر عن بيئتهم وثقافتهم واختلاف طبائعهم وشخصياتهم. كاتبة سعودية [email protected]