«منذ ولادتي حيرت العائلة في تسميتي. فالأب اقترح حلا، والوالدة فضلت علا. ولونت طفولتي قبل أن أعيشها، ورسمت اسمي قبل أن أكتبه، والجدول المدرسي بالنسبة إليّ رسم من الحصة الأولى حتى الأخيرة، ودفاتري العلمية والأدبية تحولت إلى (خربشات) استكشافاتي بالمربعات والمستطيلات والشعر. وفي أول مسابقة لي رسمت لوحتين، واحدة لي والأخرى سجلتها باسم توأمي التي لا تعرف الرسم، فازت لوحتها وخسرت لوحتي. غضبت وقتها على رغم أن اللوحة لوحتي، وتعلمت بعدها ألا أرسم لغيري». بهذه السطور، بدأت الفنانة التشكيلية السعودية علا حجازي حوارها مع ال«الحياة»، وقالت إنها استفادت من مدينة الضباب لندن بكلياتها ومتاحفها، «كنت أركض لأتنفس علماً أفتقده في مدينتي التي أحبها جدة، لندن منحتني فنون الحفر والطباعة وال«بورتريه» والرسم الحر المعاصر والنقد الأدبي ومهارات تدريب الأطفال على الرسم».. فإلى نص الحوار: دراستك الأكاديمية في حقل غير فني، كيف انطلقت بداية علاقتك مع الألوان؟ - أنا فنانة منذ صغري، ألتقط القصص من الجيران والغرباء، وأحولها إلى رسم ولون على ورق. اصفرت الأوراق وانتهت الحكايات، فالموهبة تسبق العلم، وعلى رغم دراستي الأدب والبلاغة من جامعة الملك عبدالعزيز في جدة، ولافتقار مدينة جدة لجامعة أكاديمية محترفة تدرّس الفن على أصوله، لذا جدفت نحو أقرب مرفأ، وهو اللغة العربية، لعشقي للقراءة، بخاصة أن والدتي كانت تقرأ لإحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وعبدالحليم عبدالله ونجيب محفوظ، وما بين شجرة اللبلاب وقصر الشوق تخيّلت قصصاً منذ طفولتي لأحولها إلى عمل تشكيلي. بعد تخرجك اتجهت مرة أخرى إلى تخصص علم النفس، هل له علاقة بالفن؟ - درست علم النفس لمعرفة ذاتي، فمن عرف ذاته أدرك الحياة وأسرارها والرضا والوصول من طريق الصدق إلى قلوب الناس، إلا أنني لم أغفل يوماً عن أهمية تطوير موهبتي الفطرية، فالتحقت منذ الصغر بعدد من الدورات الفنية التشكيلية، منها دورة الفن التشكيلي والحفر على المرايا والتلوين الزيتي والرسم على البورسلين، إضافة إلى دورات في الحفر على المعدن التي قادتني إلى لندن لدراسة الحفر على الزنك باستخدام «الحوامض»، التي فتحت لي آفاقاً على شواطئ الحرية التعبيرية اللونية. كما أن زياراتي للمعارض لفنانين عظماء قرأت عنهم، مثل بيكاسو، ميرو، آرمان، بول كلي، أندي ورهل، فريدا كالو، كاندينسكي، شكلوا تجربتي الفنية، وأدركت أن الفنان التشكيلي حصيلة ما يشاهد ويتعلم، إضافة إلى بصمة ريشته الخاصة. سفرك المتواصل، هل يدعم مسيرتك الفنية؟ - سافرت إلى دول عدة، منها روما لرؤية سقف ساستين التي رسمها مايكل أنجلو، ومالقا التي تضم متحف بيكاسو، ولوس آنجليس لرؤية متحف الموما، وتركيا لزيارة متحف «المودرن». في السفر خبرات لا تمنحها الكتب، ومتعة للفنان التشكيلي كي لا يتسمر عند إطار لوحة، بل يحلق على الخريطة التشكيلية العالمية. طفولتك بين بيروت والمملكة، هل يمكن رسمها بلوحة، بخاصة أن الطفولة تختزل دوماً في عقولنا؟ - لوحاتي من وحي تلك المدينتين، فمرحلة الطفولة التي تختزل الذاكرة بالكثير من الصور الجميلة لها، ولكن النضج كان في قلب مدينة جدة. لذا هذا المزيج كوّن لي نكهة خاصة مختلفة في أعمالي، لا تشبه غيري من الفنانين. تبدعين في العديد من الفنون «الرسم والحفر على النحاس والزنك واللينيوم»، هل هناك خيوط مشتركة بين الجميع؟ - العلم والمعرفة والممارسة كلها تجتمع لتشكل قوة للفنان وزاداً روحياً لأعماله، فكلما مارس الفنان التشكيلي خامات متعددة أصبح أكثر مرونة مع لوحته. دربت الكثير من الأطفال على فن الرسم، فهل يضيفون إلى رصيدك الفني خيالاً جديداً أم أنه مجرد تدريب؟ الطفل هو من أعاد إليّ طفولتي، وتدريبي للأطفال في مرسمي كان تعويضاً لحرمان طفولتي من دراسة الفن، ولترك بصمة في جيل صغير يحقق حلماً عجزنا عنه. عملت مع الأطفال 13 عاماً ومنحتهم خلاصة ما توصلت إليه من المعرفة اللونية، وفي المقابل منحني عالمهم شقاوة لونية وجراءة كنت أخشى الخوض فيها في بداياتي، فلوحتي تحوي روحاً شفافة صادقة، لأنها خرجت من أعماق القلب. عدد من التشكيلات المبتدئات تأثرن بفنك ورسوماتك، هل السبب سهولة لوحاتك؟ - هنا دليل على نجاح أعمالي وحرصي على إتقانها، فمن لا يتأثر ولا يؤثر ليس له وجود. إن التأثير ضروري حتى يتم الاستقلال بشخصية ذات ملامح لونية خاصة. كنت رئيسة لجنة تحكيم في العديد من المسابقات، فما الأسرار الفنية التي تعولين عليها في تقويم اللوحات؟ - التحكيم كان خاصاً بمرحلة الأطفال، لذا اعتمدت على مدى طفولة لوحة المشترك، وغرابة فكرته وصدقها وعفويتها، وتمكنه بحسب عمره من أدواته، وأنا أسافر كل عام مثلاً إلى ألمانيا لعضويتي في اتحاد فناني أوروبا لإنتاج أعمال فنية متجددة. هل الفن يمنح الإنسان الحرية والتمرد على الأشياء، أم يقيده بنمط معيّن؟ - لم يشجعني أحد على الرسم، بل كان وعد السماء يقول «خلقت للرسم»، فمشيت أستقوي بفرشاتي ودعاء والدتي، والإنسان خلق حراً، والفن حر طليق مسافر، يلتقط الفرح فيسكبه لوناً، فإن قيدناه قتلنا إبداعاته. ما تقويمك للمعارض والحركة الفنية في السعودية؟ - يلاحظ تزايد عدد الفنانين التشكيلين والتشكيليات مع انتشار المعارض، بخاصة في جدة خلال الأعوام الأخيرة، والعبرة بالتميز لا بالاستنساخ، وعدد من السعوديات يحاولن باستمرار أن يجدن خط تميز ولوناً خاصاً بتجاربهن. كيف تتعاملين مع مواقع التوصل الاجتماعي في فنك التشكيلي؟ - أستخدم هذه الوسائل لنشر لوحاتي ومعارضي، وذلك حتى تصل تجربتي إلى شرائح جديدة، كما أنها حلقة وصل بأصدقائي وزملائي الفنانين الذين التقيهم في رحلاتي الشخصية أو الفنية في عدد من الدول العربية والغربية. فمثلاً أصبح «فيسبوك» بيتنا الثاني، وكذلك «تويتر» و«أنستغرام»، لما تمنحه هذه المواقع للبشر من فرص للتحاور وتبادل الأفكار وكأنهم يعيشون معاً، علماً بأن إدمانها يقتل الوقت. كم عدد المعارض الداخلية والخارجية التي شاركت فيها؟ - نفذت ستة معارض شخصية في مدن عدة، منها جدةوالرياض وباريس ورابغ وأبوظبي، كان آخرها «أي وطن جدة»، وكان عن إعادة تدوير مستهلكات البيئة لتحويل الجماد إلى عمل ينبض بالجمال، إضافة إلى عشرات المعارض مع فنانين آخرين. ما آخر مشاركاتك التشكيلية؟ - مشاركتي امتدت إلى دول عدة، منها فرنساوألمانيا وكوريا وتركيا، وكان آخرها متحف ماليزيا، إذ قدمت تجربة غنية في حياتي بعنوان: «مذكرات سجادة»، إضافة إلى تنفيذي حزمة من الأعمال بعنوان: «لقطات»، مثل صور التقطتها في أماكن عدة وأضفت إليها رسومات محكية من مشاهد أحسستها بعيني في جولاتي، وكذلك تنفيذ مجموعة «غزل» التي تمثل صناديق خشبية، ألتقط خيوطها مع كل فجر، لغزلها في ألف لون ولون. ما أهم عمل قدمتيه وتفخرين به؟ - البرج اللامتناهي، وهو من أربعة أدوار، كما أن مدينة الملك عبدالله الاقتصادية تضم 61 لوحة من أعمالي المميزة، وكذلك أربع سجادات جداريات في ماليزيا، وكذلك في «يونيسكو» وبعض المصارف والمؤسسات والمنازل. ما المدينة التي تمنيت زيارتها ولم يحن الوقت لها؟ - مدينة نيويورك الصاخبة بالفن والجمال والجنون. قرأت مذكرات الفنانة الفرنسية الراحلة لويز برجوا عن نيويورك، فاشتهيت السفر إليها والتعرف عليها، كما تستهويني المكسيك لزيارة متحف الفنانة الراحلة فريدا كالو التي شاهدت أفلام فيديو عن مسيرتها ورأيت معرضاً لأعمالها في «ناشيونال غاليري» بلندن، إذ من ألوانها انتصرت فريدا على وجعها، فالإبداع لا يولد إلا بعد معركة مع الألم. تشاركين حول العالم في فعاليات وتجارب، ماذا تضيف لشخصيتك الفنية؟ - نشر اللون والثقافة والانفتاح مع الآخرين وعدم الانغلاق والاندماج مع الشعوب من وسائل تطوير الخامات الفنية العالمية مع الحفاظ على الهوية الوطنية، فالحياة نبضة لون وخفقة ريشة تمنح الفنان الاسترخاء الذاتي. كيف تتقاسم شخصيتك السعودية ولبنان؟ - طرابلس لا تموت من ذاكرتي، وجدة وطني الذي منحني القدرة على التحدي لأصبح رمزاً وتاريخاً في جدة وخارجها. ألوانك مسافرة دوماً، إلى أين تتجه؟ وعن ماذا تبحث؟ - ألواني تتفاعل مع غيوم السماء، تعلو وتهبط وتشاهد من نافذة الطائرة الأحياء والطرق لأروي لها قصصاً عن عشقي لوطني السعودية. فأين أطير يبقى قلبي معلقاً في مدينتي «جدة»، وكأني سمحت لألواني بالتحليق إلى المدن الهاربة حول العالم، وأبقيت بوصلتي إلى وطني السعودية.