ماذا لو أسقط أحدهم دولاراً أميركياً عن قصد في شارع مزدحم، هل في المقدور تحليل ردّات فعل المارّين بنزاهة؟ المشهد هو مقاربة لما يجرى في الساحة التشكيلية السورية في الأعوام الأخيرة، فهل تحوّل الفنان إلى ماريونيت بيد الصالة أو صاحبها مع محاولة هذا الطرف تهيئة الفنان للمراهنة عليه خارجياً في مزادات كريستيز دبي وسوذبي أو البورصة العالمية، لسحب أكبر قدر من المال؟ المركز الثقافي الفرنسي في دمشق، خاطب في نهاية عام 2010 الجمهور السوري تشكيلياً بمحاضرة ذات عنوان رنّان (الفن العربيّ المعاصر في زمن العولمة: مخاطر قصة نجاح)، واضعاً نموذجاً له صورة إعلانات طرقية لسبهان آدم (38 سنة) بعد أن أفرز هو ذاته أعمال التشكيليّ السوري وعرضها بالتوازي مع أسماء معاصرة، ولم يأت باحث المعهد الفرنسيّ للشرق الأدنى إيف غونزاليز كيخانو بجديد في محاضرته، إنما استقرأ عشوائياً ومن دون تحليل واقع التشكيل والمقالات العربية عنه (وعلى الأخص سجال غاليري أيام ويوسف عبدلكي وصفوان داحول على صفحات جريدة «السفير»)، خالصاً إلى القول: «استسلم عددٌ من الفنانين لإغواء الأرباح المالية، استقوها من اعترافٍ دوليٍّ أفضل، غير أنّ بعضهم قام بمزيدٍ من التساؤل حول المكانة التي أصبح يحتلّها في الإنتاج التشكيلي نمطٌ جديدٌ من الوسطاء»، كيخانو حكم بسهولة على لا هوية الفن السوري، وختم بأن الفن السوري يلحق الموضة العالمية، بإضافة الخط العربي أو غيره كمثال في لوحات آدم، ويرد آدم على المحاضرة بقوله: «لم يُضِف المركز إلى تجربتي شيئاً، على العكس، وهذه الطريقة أشبه بالفكر الاستعماري المتأصل لسنوات طويلة... فرنسا العجوز عليها الآن فنياً أن تسكت وتذهب إلى أقرب مشفى أمراض نفسية، والعلاج على حسابي». دانَ آدم المحاضرة قائلاً: «هذه محاضرة صفراء، وليست لها علاقة بالاستقصاء إنما بالدعاية والمزاج الشخصي بين المركز والفنان يوسف عبدلكي الذي يُظهِر نفسه على أنه شهيد المرحلة، إنهم يُروّجُون لحسابات شخصية لها علاقة بالمزاج الفردي»، ودعا المركز إلى بناء علاقة فرانكوفونية جيدة، مع محيطه كاشفاً أن الأموال تُصرَف وفق مشيئة الإدارة، وعَدَّ نفسَه معاصراً على عكس عبدلكي «ذي النمط الحداثيّ القديم لجيل السبعينات»: «أعمال عبدلكي لا تعدو كونها قوالبَ قديمةً تُدرس في كلية الفنون الجميلة». «قاعة الشعب» (حمص- سورية) استضافت في أواخر هذا العام معرضاً لعبدلكي (59 سنة)، وقد قدّمتِ المحاضرة السابقة الفنانَ السوريّ (فرنسي الجنسية أيضاً) بناءً على أنه مناضل ومُنتَمٍ إلى جيل «الفن الملتزم» ولا يقبل المهادنة، إلا أن ما يستوقف الانتباه هو تركيز الباحث على خلاف عبدلكي مع غاليري أيام، فهل هناك من رابط بين تلك الانتقائية والترويج الثقافي على أقل تقدير لمصلحة الفنان المتعاقد سابقاً مع الغاليري؟ يقول عبدلكي: «أنا لا أعرف الباحث، ولم أعلم بالمحاضرة، إلا من صحافيّ، وعندما ذهبت كنت أظن حديثهم عن الفن التشكيلي المعاصر، ولم أكن أعلم أنهم سيتطرّقون إلى ما حدث بيني وبين أيام». الحياة التشكيلية من دون خلافات وتضارب في الآراء مملّة، لدى عبدلكي: «الحوار في السفير تشكيلياً (قبل شهور) أثار اهتماماً كبيراً لأنه رمى حجراً في مياه راكدة، ومن هنا لا أخفي فرحي بالنقاش في المحاضرة». ما سِرّ كلّ هذا الخلاف؟ وهل أنتج في هذا العام كُتلاً فنيةً جديدة، وانقساماتٍ في الفنّ السوري؟ الجواب أتى من عبدلكي بأن الخلاف غير موجود بينه وبين غاليري أيام، أو صاحبها خالد سماوي: «ناقشتُ آراء سماوي، آراؤه شيء، وهو نفسه شيء آخر، وما حدث أن بعض أصحاب الذهنية البدوية، عَدُّوا هذا الرأيَ شخصياً». غاليري أيام بفروعها (مصر، دبي، بيروت، دمشق) تُخطّط لافتتاحات أُخرى في الدوحة وجنيف ولندن، ويرى سماوي أن الخلاف مع عبدلكي هو خلافُ جِيلَينِ، وليس شخصَيْن، يبدأ عُمر التشكيل العربيّ في أعوامه المئة بجيل أول هو جيل الرواد، ثم جيل الماضي (الحداثة)، وجيل «المعاصرة» الحالي ورُوّاده، وهؤلاء يحترمون القُدامى لكنهم لا يتأثّرون بهم: «هناك كبارٌ بقلب معاصر، وهناك فنانون لا يزالون يعيشون في عام 1970، أي جيل يموت وآخر يُخلَق، هنا يأتي الصراع، ومن هنا تنشأ الثرثرة». طبعاً يُطالب القدامى الجدد بتفسير تقنيات اللوحة ما يجعلُ الجُددَ يهربون، إلا أن سماوي لا يتهمّ أحداً بالخطأ بل يرى أن «أيام» كصالة «لها عقلية معاصرة ليست حديثة، ومن الصعب من ثم إيجاد هؤلاء الفنانين المعاصرين»: «غالبية الغاليريات السورية تعمل على الأسماء المُخضرَمة التي من السهل تسويقها، ونحن بحثنا عن فنانين لم يكونوا معروفين، وبذلنا جهداً ومالاً لدعمهم»، لكنْ ما هو نتاج أيام في الأسماء التشكيلية الشابّة للعام؟ خالد تكريتي أحدهم، وقد عرض في متحف الفنّ العربيّ الحديث في الدوحة حديثاً، وهو من عشرين فناناً بينهم خمسة عشر سورياً في أيام، يأخذون قالباً أشبه بماركة أو علامة ك»روتانا»، وهم ينتمون في نهاية المطاف إلى نحوِ ثلاثة آلاف فنّان تشكيليّ مُسجَّلِين في مُؤسّسة رسميّة. فنّانو الجيل الشاب هذا العام، ليست لهم فُرصٌ وافرةٌ في العرض، كما في كُلّ عام أو ربما حظي القليل منهم بذلك، والأمور لم تكن هكذا في السبعينات، فالدولة كانت تشتري الفن من أصحابه، كنوع من التشجيع، بينما نما الجيل الجديد من دون مرجعيّات فنّية واضحة، ما يقيسه عبدلكي على أنه تحدٍّ كبير: «كيف سيقومون بمشاريعهم، بالحياد عمّا يجرى؟ وهناك تحدّ آخر في الحفاظ على اللوحة وخيال الفنان، بشكل مستقل، الجيل الجديد في أزمة لم يتعرض لها جيلنا نحن». في قرابة عشر صالات سورية خاصة للفن الحديث والمعاصر، لم يكن هناك سوى معرض عالميّ واحد استثنائيّ لليتوغرافيات الإسباني سلفادور دالي (1904- 1989) عن الكوميديا الإلهية لدانتي في صالة تجليات (تأسست عام 2008)، مع بريق نسبيّ لصالة أيام وآرت هاوس، ورتابة في صالة كامل ورافية وعشتار، وصولاً إلى «السيد» أقدم الصالات الموجودة (تأسّست عام 1989)، وشبه إغلاق لغاليري أتاسي (تأسّست عام 1993) التي لم تُقدّم أيّ معرض منذ الأخير لمقتنيات فاتح المدرس في ذكرى رحيله العاشرة، المترافق وتوقيع كتاب «فاتح وأدونيس... حوار»، واتّجهَت صاحبة الغاليري منى أتاسي إلى تنظيم النشاط التشكيليّ في مدن الخليج والدول المجاورة: «لا أُنكِر أن صالتي شبه مقفلة في عام 2010، لكوني استنفدت أفكاري، حاولت البحث عن معمل قديم لتقديم عرض مختلف في سورية بدلاً من الصالة التقليدية ولم ينجح الأمر حتى الآن، إلا أنني مطلعة على تفاصيل ما يجرى تشكيلياً في سورية، ولا يُربِكُني ابتعادي في العرض». تنقل أتاسي إلى الشارقة في الفترة المقبلة أعمال أربعة فنانين سوريين لعرضها: فاتح المدرس، إلياس الزيات، يوسف عبدلكي وزياد دلول ضمن عدم توافر سوق سورية حقيقية أو مؤسسات ثقافية للتشكيل، واعتماد الأمر على مبدأ الفورة، مع وجوه جمهور لم تتغير منذ عشرين عاماً: «حالة الضياع الحالية إيجابية، فهي أولى خطوات الانفتاح، على رغم النقص في مفردات التشكيل السوري». وتشهد صاحبة الغاليري العريقة في سورية بجودة عمل «أيام» كغاليري، وبدفعها تكاليف باهظة على تسويق لوحاتها، لذا فالأسعار بدأت ترتفع: «ليس على وزارات الدولة أن تفرض وصاية على تَنقّل الأعمال». في دولة مثل سورية ارتبط الفن فيها بالالتزام والفكر فترة السبعينات، تُركِت الأمور على سجيّتها إلى الآن، فلا ضرائب على الغاليريات، سوى طلب قديم من وزارة الثقافة تَكدّس عليه الغبار، بدفع خمسة في المئة من سعر اللوحة إلى النقابة، لكن من الأكيد أنه لو كانت هناك ضريبة فلن تكون على فنان تأخذ منه صالته ضريبةً خياليةً، لا يتوانى آدم عن كشف تفاصيل هذا الوسط التشكيلي متحدثاً عن تهريب لوحات للرواد (وهي مصدر للثروة الوطنية السورية)، مطالباً الدولة بوضع قوانين حتى على افتتاح الصالات التشكيلية التي تُعطى تصاريحها اليوم بسهولة: «لمّا قرّروا افتتاح صالات فن تشكيلي من دون ضرائب كانت اللوحات بأسعار بخسة، بضعة آلاف، الدولة الاشتراكية فعلت ذلك لمساعدة الفنان على معيشته، لكن عندما نسمع عن مبيع لوحة بمئة ألف دولار، فليس من الصحيح ألا تكون هناك رقابة لسلطة ثقافية، نحن في حاجة إلى متحف فن وطني حديث»، ببضعة طوابع تفتتح الصالاتُ أبوابَها في سورية. وينادي آدم بدعم الشباب «كي لا يتعرّضوا لاحتكار الغاليريات المتلاعبة بورقة المال التشكيلية»، ويكشف عن «تدليس وافتراء في الصالات أنتج مجموعات من الفنانين الشباب عادوا إلى الفن من أجل المال فقط، ومن ثم أنتج ذلك تشوهاً فنياً وبصرياً، جعلَ الأعمال (هذا العام مثلاً) لا تحمل أي جديد، أو أي عمق»: «الفن في سورية اليوم هو موضة كالمطربين، الكثير منهم ولا شيء»، ويضيف أن المزادات خدعة: «ما معنى فنانين شباب عدة تصبح أعمالهم بآلاف الدولارات؟ الرقم وضعه الغاليري الذي يشتري الأعمال من نفسه، ثم تُوضَع في مزاد، ويرسل الأصدقاء لشرائها، هناك كذبة كبيرة في الفن التشكيلي السوري، فمن سيشتري لوحة بهذا السعر إذا لم يكن من أصحاب الثروات أو رئيساً لمجموعة من الفايكينغ؟»، فهل يغفر الفنانون الشباب الآخرون للفايكينغ هذا العام.