ما تشهده المنطقة العربية اليوم من عنف وصراعات دامية ليس معزولاً عن احداث وتفاعلات مماثلة تجري في اماكن اخرى من العالم. قد لا تتساوى هذه الأحداث الأخيرة مع الصراعات العربية من حيث سعة انتشار وضراوة العنف الذي يميزها، ولكنها مع ذلك تعبر عن ظاهرة عامة يمكن تلخيصها بصعود التطرف القومي او الديني الذي ينتشر في دول ومجتمعات اوروبية وآسيوية عديدة. ويتوقع المعنيون بالأوضاع الدولية والإقليمية ان تبرز معالم ملموسة وقوية لهذه الظاهرة خلال الأشهر المقبلة، بخاصة في اليابانوالهند ودول الاتحاد الأوروبي. ففي اليابان استقبلت عودة زعيم الحزب الديموقراطي الليبرالي شينزو ابي الى رئاسة الحكومة في نهاية عام 2012 بتحفظات من قبل المناهضين لليمين المتطرف. واستندت التحفظات الى آراء ابي المتطرفة في السياسة الخارجية التي اتبعها عندما تولى الحكومة لأول مرة عام 2006. الا ان مؤيدي ابي حاولوا اطفاء هذه التحفظات على اساس ان ابي تعلم الدرس وتخلى عن القناعات السابقة التي وضعته في صفوف اليمين الياباني المتطرف، مثل دفاعه عن غزو القوات اليابانية للصين وكوريا خلال الحرب العالمية الثانية. بيد ان الأيام دلت على انه لم يتراجع عن آرائه المتعصبة. وكان الدليل الأكبر على تمسكه بهذه الآراء في رأي النقاد زيارته خلال كانون الأول (ديسمبر) الماضي مقبرة ياسوكوني التي دفن فيها كبار قادة القوات اليابانية الغازية ممن وصفوا بأنهم كانوا من «نازيي آسيا». الأهم من ذلك هو صلة ابي القوية بمجموعة من الصناعيين التي تسعى الى الغاء الحظر الدستوري على صادرات السلاح الياباني. وفيما تمسكت به الحكومات الليبرالية والاشتراكية الديموقراطية السابقة، فإن حكومة ابي، بالتعاون مع اصحاب مصانع السلاح، تعتزم الغاء الحظر خلال آذار (مارس) المقبل بحجة ان صناعة السلاح اليابانية معرضة للانقراض اذا استمرت تعتمد على السوق الداخلية وحدها. ولكن هذه الحجة لا تقنع الديموقراطيين اليابانيين الذين يخشون ان تكون هذه الخطوة مدخلاً لإحياء الروح العسكرية اليابانية وتناغماً حكومياً مع اليمين الياباني المتطرف الذي يبدو وكأنه وجد في شينزو أبي ضالته المنشودة كسياسي بارز تحركه النزعات القومية والدينية المتطرفة. ما يمثله أبي في اليابان، يمثله ناراندرا مودي في الهند. ولكن مع بعض الاختلاف الذي يعكس التباين بين البلدين. ففي حين يبدو أبي اقرب الى السياسيين العصريين، يتصرف مودي وكأنه اقرب الى الزعماء الإقطاعيين. ويتزعم الأخير «حزب الشعب الهندي» الذي تأسس عام 1980، واكتسب شعبية في الأوساط الدينية الهندوسية المتعصبة، بخاصة بعد ان تولى انصاره تدمير مسجد بابري، وارتكبوا اعمال العنف الجماعي ضد المسلمين. لقد وصل مودي الى زعامة الحزب وأمسك انصاره بقيادته رغم معارضة ابرز قادة الحزب ومؤسسيه لأنهم اعتبروه متطرفاً حتى بمعايير الحزب نفسه! ويعتقد بعضهم ان الأجندة الحقيقية التي يعمل مودي على تنفيذها هي اعلان الهند «دولة هندوسية» خلافاً للدولة العلمانية التي اسسها «حزب المؤتمر الهندي». ورغم التحفظات الكثيرة على زعيم حزب الشعب، فإن التوقعات تشير الى انه سوف يفوز هو وحزبه في الانتخابات الهندية العامة التي سوف تجري خلال شهر أيار (مايو) المقبل. بينما يدق التطرف الديني والقومي ابواب اكبر قارات العالم، فإنه يطرق، في نفس الوقت ابواب اكثرها ثراء، ففي اوروبا تقوم حركة نشيطة من اجل تأسيس «اممية قارية» لأحزاب اليمين المتطرف. يأمل القائمون بهذه الحركة مثل خيرت فيلدرز، زعيم حزب «الحرية» الهولندي ومارين لوبن زعيمة «الجبهة الوطنية» الفرنسية ان تنجح في تجميع صفوف خسمة احزاب قومية اوروبية متطرفة. بذلك تمهد هذه الأحزاب لخوض انتخابات البرلمان الأوروبي خلال الربيع المقبل في قوائم موحدة. بعد الحرب العالمية الثانية واندحار النازية والفاشية، اعتاد الديموقراطيون ان ينظروا الى احزاب اليمين المتطرف على انها تجمعات صغيرة، هشة، وهامشية وليس لها امل في احراز مواقع مهمة في البنيان السياسي الأوروبي. ولكن الأرقام تقول خلاف ذلك. فالاستفتاءات التي تجري في اوروبا ترشح «الجبهة الوطنية» في فرنسا لإحراز مكاسب انتخابية مهمة، اما حزب «الحرية» الهولندي فقد لعب دوراً مهماً في تشكيل الحكومات الهولندية. وفي كل من هنغاريا واليونان والنروج وإيطاليا باتت لليمين المتطرف مواقع برلمانية وحكومية نافذة. وكما هو الأمر في الهندواليابان فإن نجاح تحالف اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية من شأنه ان يؤثر في مواقف الاتحاد الأوروبي ومواقف دوله على العلاقات مع الخارج، ومع الدول العربية بصورة خاصة، نظراً الى الأفكار المعادية للعرب التي تعتنقها هذه الأحزاب والتجمعات. فالموقف تجاه المهاجرين العرب يحتل المرتبة الأولى من الاهتمام المشترك بين احزاب اليمين الأوروبي. مارين لوبن تخشى ان يؤدي تزايد اولئك المهاجرين الى «اسلمة» اوروبا او الى تحويلها الى «عوروبا»، كما جاء في كتابات جيزيل ليتمان الأميركية الجنسية والمصرية الأصل. وحتى ولو تم استبعاد هذا الاحتمال كلياً، فإن احزاب اليمين المتطرف تعتبر ان نسبة المهاجرين المسلمين والعرب الحالية تؤثر بصورة سلبية في اوضاع القارة الأوروبية. ويؤثر صعود الأحزاب القومية المتطرفة في القارتين في المصالح الاستراتيجية العربية بخاصة من زاوية الصراع العربي- الإسرائيلي، وضمان المصالح النفطية العربية. فاليابان ساندت قيام كيان صهيوني في فلسطين منذ بروز هذه الدعوة على المسرح الدولي وأيدت وعد بلفور حين صدوره تقريباً. واستمرت هذه السياسة حتى عام 1973 حينما وصل اعتماد اليابان على النفط العربي الى ذروته وبعد ان نفذت الدول العربية المقاطعة النفطية ضد الدول التي اضرت بالمصالح العربية، فاتجهت طوكيو الى بناء علاقات وثيقة مع الدول العربية. وانسحب هذا التغيير على موقف اليابان تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي، اذ بات اقرب الى التوازن. اما العلاقات الهندية - العربية فقد لبثت متينة ايام حكم حزب المؤتمر، لكي يتغير الحال في مطلع القرن بعد بروز «حزب الشعب الهندي» وما مثله من نزعة معادية للمسلمين وللعرب. ان هذه المتغيرات الكبرى تستحق وقفة من اصحاب الرأي والقرار في الدول العربية. فصعود اليمين المتطرف الأوروبي جدير بتحفيز العرب الأوروبيين، اي الذين يقيمون ويعملون في الغرب، الى البحث عن افضل السبل لمواجهة هذا الخطر، ليس على العرب والأقليات الإثنية والدينية فحسب في القارة الأوروبية، بل أيضاً على الديموقراطية الأوروبية. فليس من قبيل المصادفة ان يشن اليمين الأوروبي المتطرف حملة لا هوادة فيها ضد الاتحاد الأوروبي وضد الأقليات في نفس الوقت. فالحرب على الأقليات كانت حرفة الأنظمة الديكتاتورية، اما الاتحاد الأوروبي فهو الذي قضى على آخر معاقل الاستبداد في اوروبا ورسخ الأنظمة الديموقراطية فيها فاستحق نقمة فلول الأنظمة الأوروبية المستبدة. وللعرب مصلحة أيضاً في مراجعة العلاقات العربية-الهندية وإعادة النظر في السياسات التي ادت الى تقوية التيار المتعصب في الهند. من هذه السياسات مراجعة الموقف من مسألة كشمير بحيث يتحول العرب فيها من طرف الى وسيط بين دولتين صديقتين لهم. اما اليابان، فليس من مصلحتها ان تخسر صداقة العرب. انها مهددة بالتحول الى «اسرائيل الشرق الأقصى»، كما جاء في مجلة «كاونتر بانش»، اي بالعزلة عن جوارها. وبإمكان الدول العربية ان تبين لليابان الفوائد الكثيرة لحسن العلاقة مع الدول العربية حتى ولو لم تكن من دول الجوار. بالطبع ان الاضطلاع بمثل هذه السياسات يتطلب، بالدرجة الأولى، مقداراً من التنسيق والتعاون بين الدول العربية نفسها، وهو ما يصعب تحقيقه خلال الأشهر المقبلة، ولكنه يبقى رغم ذلك هدفاً ملحاً وشرطاً ضرورياً لأية مراجعة ناجحة للسياسات العربية الخارجية. * كاتب لبناني