ما بين 1973 و2013 أربعون سنة من الشعر، حملتها عشرة دواوين جمعت في مجلدين بأكثر من 900 صفحة هي الخلاصة التي يقدمها الشاعر العراقي علي جعفر العلاق لعمله الشعري الصادر عن دار فضاءات - عمان. يبدأ المجلد الأول بديوانه «لا شيء يحدث لا أحد يجيء» لينهي المجلد الثاني بكتابه «حديث البدايات»، وما بينهما تقع حياة شعرية عاشها الشاعر العلاق مستقلاً بلغته التي لا تقبل النقص ومناخاته التعبيرية التي كانت تعبر عن نزعته التأملية التي قادته إلى النظر إلى وقائع شخصية ومشاهد محلية بعينين معاصرتين، لم يُربك صفاءَ خيالهما وقعُ المأساة العراقية وأثرُها التي حرص الشاعر على أن يمتزج بخلاصاتها بتأنٍّ وحنان ساحرين. سيكون مؤثراً في هذا المجال أن أشير إلى أن كتاب الشاعر الأول يبدأ بجملة تقول: «كأن طيور الفرات غزال على الرمل/ غطوا الدفاتر بالماء/ هل علق الراحلون على النخل أفراحهم؟». في حين ينتهي كتابه الأخير هو الآخر بسؤال يقول: «أيها الليل الخرافي إلى كم ستطول؟» هكذا إذاً، سؤال يمهد لسؤال يتبعه بكل أريحية ليؤكده لكن، بعد أربعين سنة. نبوءة قد لا يكون الشاعر قد انتبه إليها قبل صدور أعماله الشعرية الكاملة. لقد عاش هذا الشاعر حياته محلقاً بين غيوم الشعر. لم يلوث يديه بحبر الواقع، فكان شغفه الشعري يقيم في منطقة تقع أعلى من أن تصلها أبخرة ذلك الواقع. لم يسمح الشاعر لغصته بأن تفسد معماره الخيالي، غير أنه وهنا تكمن خصوصيته لم يخن تلك الغصة ولم يخفها. كان عليه أن يقاومها بطريقة الابن الذي ينصت إلى بكاء أمه، متوسلاً الوصول إلى الإيقاع السري الذي يرتقي سلم البكاء وصولاً إلى الحكمة. كان الإيقاع هو المنفى الاضطراري لهذا الشاعر الذي سيجرب في ما بعد صنوفاً مختلفة من المنافي. الآن، بعد أربعين سنة من المحاولة الأولى صار عليه أن يأنس إلى غيومه، عصافيره، زهوره، دفاتر عزلته وبيوته الطينية. لم يعد أمامه سوى أن يتخذ من احتمالات الشعر فضاء لمنفاه الجمالي الأخاذ. وهو المنفى الذي كان مستعداً للتماهي مع تجلياته. هذا الشاعر الذي التحق بجيل الستينات العراقي متأخراً من غير أن ينضم إليه كانت لديه نظرة مختلفة عن علاقته الشخصية بالشعر وعن علاقة الشعر بالواقع. لكن، بعد كل هذا الشعر العذب والمعذب، ألا يزال الحديث عن الواقع ممكناً؟ بالنسبة إلى شاعر نادر مثل العلاق، فإن كل محاولة شعرية يمكنها أن تكون حدثاً له قوة الواقع. فمنذ بداياته عرف العلاق أن الشعر والواقع إنما ينطلقان من ضرورة، تشكل اللغة مجالها الحيوي، بل وحقيقتها لا تقبل الإنكار أو الشك. كانت قصائده تمريناً بصرياً بقِدم الوصف المترف لغوياً على التفسير المكبل بذرائعه الزائفة. كانت لغته تتباهى بجرسها، حيث كانت هندستها الخيالية تؤسس لحقول نضرة. كان العلاق دائماً حارس إلهامه اللغوي. وعلى رغم أنه كان يمسك باللغة بحذر يدين قدتا من حرير، فإن مادة قصيدته كانت تشق الهواء ذاهبة إلى المعنى مثل حجر. وتلك هي معادلته الشخصية التي جعلته يقف دائماً وحده في غابة شعر، كانت أشجارها مثقلة بالنواح. كان لديه دائماً من اللغة ما ينعش الموسيقى في الروح وكان لديه دائماً من الواقع ما يُطمئن الإيقاع في الجسد. معادلة ساعدته على اختراع شعر وجداني، خالٍ من البكاء. شاعر رافديني فتح عينيه على بلاد كانت تتسرب من بين أصابعه مثل قطرة ماء. ورث الحزن عميقاً ليصنع منه معنى لسيرة بلاد يعرف أن حزنها طويل ولا يمكن حياة واحدة أن تستوعبه. لذلك، صار يستغيث بالشعر لكي يعينه على تقنية العيش من أجل أن يحلق بها بعيداً من أسباب هلاكها. لذلك، كانت هناك دائماً ملائكة تتبعه بأجراسها، مسحورة بكلماته التي كانت تحضر طازجة، نضرة كما لو أنها لا تزال معلقة مثل مصابيح في شجرتها. بالطبيعة، بفصولها المتغيرة، بتضاريسها المعبأة بالمفاجآت السارة وقف العلاق في مواجهة الموت الذي هو صورة من الواقع العراقي. لقد وهبنا هذا الشاعر حياة استثنائية نعيشها في الشعر مثل غرباء في انتظار ولادة وطن يتسع لأقدام الأمهات.