كان الوقتُ متأخراً في مطار دبي، وأنا أنتظر الصعود إلى طائرة الخطوط الهولندية حتى امستردام، ذهني مشتت ولا شيء يمكنه أن يشدّ خيالي أو يركزّه على الأقل. الجرائد قرأتها في الصباح الباكر، كالعادة، ورقية كانت أو الكترونية. لم أنفكّ عن معرض الشارقة بسهولة، بل لم يكن يعجبني أن أنفكّ، فقد كنتُ بين خيارين، كلاهما مرّ، البقاء في الشارقة حتى نهاية المعرض أو تلبية دعوة جامعة ساو باولو للمشاركة في قراءات شعرية، لشعراء من لغات الشرق، التعب هدّني بعد يوم عمل مُتعب ومكثّف، أحياناً أشعرُ وكأنني أعيش في عالم آخر، أو كأنني قادمٌ من عالم آخر بعيد جداً، كنتُ مرتبكاً، أصارع نفسي ورغبتي، فيما أنا أصعد إلى الطائرة وأجلس وكأنني أتكوّم في الكرسي، حملتُ معي «شذرات» الياس كانيتي للقراءة بترجمة عربية. لا أحب الجلوس إلى الشباك لخوفي الوهمي من السقوط اثناء ميلان الطائرة حينما تغيّر اتجاهها، وقد حجزوا لي من امستردام حتى ساو باولو مكاناً عند الشباك، حاولت تغييره ولم أفلح، فاستسلمت للأمر الواقع، سأرى المحيط من فوق، هكذا عزّيت نفسي، وأنا أحثّ الخطى إلى الطائرة الكبيرة، فرحي بالرحلة وبزيارة البرازيل من جديد حلّ محل الضيق السابق، فغصت في دواخلي، لكي استرجع هذا البلد، تصوّري عنه، عن الشعراء والروائيين فيه، بدا الآخر غاية في الضبابية، كنتُ بيني وبين نفسي اخلط بين الأسماء وأحياناً يتضح لي ان البرازيلي ما هو إلا البرتغالي وربما العكس، لم أشعر بالخوف من عبور المحيط كما في المرة السابقة، لكنني شعرتُ بعجز ما هيّمن عليّ وجعل تفكيري غير قادر على تخيّل ما سأقوله أو ما أفكّر به حينما أصل إلى هناك. أقرأ في «شذرات» الياس كانيتي بترجمتها العربية، على مهل، المترجم مثلي يقرأ دائماً بطريقة فاحصة ترجمة الآخر، وهو يجد احياناً الحلول التي فاتت المترجم الآخر... كنتُ أحاول تأمل المحيط من فوق، الغيوم بألوانها المتعددة، حيّرني لونُ بعض السحب البيضاء المدخنة، وكأنها ذلك المشروم الكبير الذي كنا نستخرجه من التربة ناصع البياض، وجزء من قبته يتخلله السواد وكأن سحابة دخان سوداء قد مرّت عليه. كانت «تشتي» بإيقاعات مختلفة طوال الطريق من المطار إلى الفندق، ولكن المطر توقف صباحاً. أمضيت اليوم أتأمل الطبيعة في ساو باولو، خصوصاً بعض الأشجار التي لم أرها سابقاً، ولا حتى في المصورات الجغرافية، الأكثر إثارة كان بالنسبة الي نوع من النخيل ذات العذوق التي تبدو وكأنها شعور نسائية محلولة مزينة بالودع والخرز، وبالبامبوس الذي أعرفه لكنني لم أره بهذه الضخامة وهذا الانتشار والجو المداري بتقلباته السريعة. منذ أيام، هنا، وأنتَ تسير تحت زخات أمطار لا تتوقف عن الهطول حتى تأخذ بالهطول من جديد، كُنتَ تجيب على سؤال يتكرر طرحه عن علاقتك بالبرازيل، فترِدُ أولُ علاقة لك بهذا البلد إلى «مقهى البرازيلية» في بغداد، على رغم أنك لم تجلس فيها إلا قليلاً... لكنك اليوم في جامعة ساو باولو، احتسيت أسوأ قهوة في حياتك، لم يختف مذاقها الرديء إلا بعد ساعات، حينما انتهت القراءة واللقاء مع الطلبة، فشعرت بأنك أخفّ، وبأنكَ تحتاج إلى فنجانٍ من القهوة الحقيقية. تقرأ مع شعراء من بلدان الشرق، بعضهم تعتقد بأنك تعرفه أو قرأت له شيئاً في مجلة ما، أو حتى ربما فقط، رأيت اسمه في مكان ما، وأنت تحبّ سماع اللغة الروسيّة، شعراً أو غناء، ثمة ترتيل ما، يجعلك تشعر بأنك فهمت، وهو مجرد شعور قديم دفعك سابقاً إلى سماع الغناء الروسي، القصيدة وهي تُلقى، وأنت مُنصِت تماماً إليها، تترقب خروج ايقاع الكلمات من فم الشاعر الذي يكوّر أصابع يده ثم يعود ويفتحها من جديد، لكنك لا تفهم عدم انسجامك مع ما هو صيني، وكأن ايقاع اللغة الصينية يدعك تنفر. ثمة حاجز ما، يقف أمامك، إيقاع اللغة يقف خارجها، شيء لا تفهمه أبداً، عائق ما، يوقفك، وإن بدرجات أقل مع إيقاع اللغة اليابانية! الخلطة المجتمعية التي يتكون منها الحضور الشاب هي سمة هذه المدينة البرازيلية، تجلس وكأنك في قارات مختلفة في اللحظة ذاتها. كنتَ تريد أن تسمع ما هو أرمني، إيقاعاً لغوياً محضاً، لكنك لم تفلح، سمعت بأن الشاعر الأرمني تخلّف عن الحضور بسبب ما، على رغم انك تتذكر أن في الأرمنية ما هو اسباني... حتى وإن بدا لك ذلك من بعيد، وأنت تستمع إلى الراديو في مرّة من المرات... وخصوصاً بالنسبة الى شخص مثلي لا يعرف اللغتين. من يعرف بعضاً من الفرنسية مثلي، يستطيع أن يلتقط الكثير من المفردات البرتغالية المشتركة ويفهمها بطريقة ما، لكنك لن تصل إلى الإمساك بالمعنى، بالجملة، على رغم شعورك بأنك تفهم بعض الكلمات، مع الغموض التام لما هو روسي أو صيني أو ياباني أو حتى عبري. هناك لغات تسحرك وتبقى أسيراً لإيقاعها، حتى لو كنت لا تفهمها، وأخرى تبقيك خارج ثقتها، كلما حاولت الاقتراب منها تبقى بعيداً، مهما حاولت من اعلان اشارات المودة، كنا شعراء من لغات الشرق: الكورية، الصينية، اليابانية، الروسية، العبرية والعربية، لم أحظ بسماع الشاعر الكوري، لكن متعتي القصوى كانت سماع الشاعر الروسي، فاللغة الروسية بقيت ساحرة واستمع الى أغانيها بشكل لا ينقطع. كان عندي احساس داخلي بأنني أفهم ما يقوله الشاعر، وبأنني أتواصل معه وهو يلقي قصيدته وحتى في الترجمة البرتغالية التي لا أفهمها، بدا وكأنني أفهم القصيدة، وهي قريبة مني جداً. كنت شاعر الافتتاح بجمهور غفير متعدد الألوان والأشكال والسحنات وهذه هي طبيعة المجتمع البرازيلي، وكان رفيقي في الافتتاح روني سوميخ، شاعر العبرية من أصل عراقي... كنا على تواصل متباعد من خلال الرسائل الورقية قبل حلول الانترنيت... وقد التقيته هنا للمرة الأولى، واستمعت إليه يتلو قصائده بالعبرية يتبعها بالطبع الترجمة البرتغالية، لكنني لم أتواصل مع إيقاع لغته ولم أشعر بأي وشيجة، على رغم أن قصائده جميلة بالعربية بترجمة الصديق سلمان مصالحة او تلك التي انجزها المرحوم سمير نقاش، فقد كنت أسأل نفسي عن السبب الذي بقي مصدره خفياً عليّ، لكنني لم أملك أدنى وشيجة إلى لغتها الأصلية، كنت أفكر أحياناً بالأحكام المسبقة، وبالانحياز الذي يمكن أن يكون داخلياً ضد لغة ما، لكن هذا الأمر ذاته ينطبق على الصينية وعلى اليابانية بشكل أقل... على افتراض وجود انحياز ما... فأنا من هواة سماع الأغاني باللغات الأخرى، ولم استسغ سماع الأغاني الصينية واليابانية حتى اليوم، لكنني اتمتع بسماع الأغاني العبرية حينما تسنح الفرصة لذلك... اخبرني روني سوميخ، بأنه يبيع من ديوانه خمسة آلاف نسخة بشكل عادي، وأراني طبعات كتبه التي تجاوز بعضها عشرة آلاف نسخة، وحينما سألني عن انتشار شعر سركون بولص مثلاً، لأننا كنا نتحدث عنه، أخبرته بأننا لم نتجاوز ألف نسخة خلال 12 سنة. قدمنا من بلدان مختلفة ولغات مختلفة، الشاعر الصيني سألني إن كنت أعرف الشاعر الصيني بي داو... الروسي تفاجأ بأنني صديق لسركون بولص ومترجم لشعره إلى الألمانية أيضاً، وبأننا أنا وهو صديقان لسركون، وكانت الألمانية هي لغتنا المشتركة، الشاعرة اليابانية لم يسمح لها عمرها بالاختلاط بنا، أثناء جلساتنا خارج اوقات القراءة، وبقيت اسيرة مجموعة يابانية صغيرة أثناء فترات الطعام، أي في محيط ياباني خالص. مع روني سوميخ كنت أتفاهم ببقايا لهجته العراقية... ببعض الفرنسية أو ببعض الانكليزية وأحياناً بالإشارات... كانت الذاكرة هي الملجأ الذي كنا نحاول استدانة بعض المخزون منه، وكنا أشبه بعراقيين تائهين بلغتين مختلفتين نحاول ترميم عالم ضاع في المحيطات الفاصلة عن قارتنا. أسواق البرازيل والنباتات المدارية يتطيّر الزائر من ارتفاع الأسعار هنا، ارتفاع في كلّ شيء جربته، أحياناً يشعر المرءُ كأنه في بيروت، لكن أحياناً تبدو بيروت من بعض النواحي محتملة من هذه الناحية. تسير إلى أعماق المدينة، تريد أن تعرف أين وضعوا الحجارة الأولى، فيوهمونك بجدار في المتحف، ومن هنا، ليس بعيداً عن هذا الجدار وقف المهاجرون الشوام الأوائل ومنها انطلقوا إلى أعماق الغابات، أحياناً تصادف بعض كتاباتهم بالعربية، وهم يحلمون بلغتهم التقليدية، يحلمون بلغة فقدت بريقها، وكأن في كلِّ واحدٍ منهم «جبران آخر» يحلم بعالم خيالي تحكم العدالة فيه ويتساوى البشر... ولكنهم تلاشوا تماماً، امّحى ذكرهم، وتحول نسلهم إلى الكتابة بالبرتغالية وأخذنا نقرأ لهم بلغات العالم الأخرى قبل أن تصل بعض أعمالهم الى العربية في شكل متأخر. ولم يسعف الوقت والعِطل في لقاء من كان يقيم هنا، رضوان نصّار، الكاتب المقل جداً، والذي قرأت له منذ سنوات بعض نثره بالألمانية، وميلتون حاطوم الذي نُشرت بعض كتاباته في ترجمة عربية. كنتُ أمتّع نفسي طيلة الوقت بمشاهدة الطبيعة، خصوصاً أشجار البامبوس العملاقة، وأنواع من أشجار النخيل التي بدت لي غير قابلة للإحصاء، عبثاً حاولت التثبت من اسمائها، كانت قاماتها عالية ولها شعور طويلة مهدّلة، شعور طويلة بألوان مختلفة، وثمة شجيرات صغيرة مزهرة فيما الأمطار تهطل... المناخ المداري يبدو لي صعب التحمّل. شاحنات كبيرة محملة بجوز الهند الأخضر وبجانبها تقف سيارات بيك آب صغيرة تحمّل منها بضاعتها لسائر المدينة، كنتُ أمرّ بطريقي بجانبها إلى سوق الخضر والفواكه... حيث كانت الشاحنات الكبيرة واقفة، فقد كنت أبحث عن الباميا، التي رأيتها في زيارة سابقة لشمال البلاد، وقد كانت بحجم الكوسا، لكنها هنا لم تكن كذلك، على رغم حجمها الكبير وطولها، وهي نحيفة وطويلة ولا أحد هنا استطاع أن يشرح لي الفارق بينها وبين الأخرى التي رأيتها قبل أعوام في شمال البلاد، فمدينة فورلتيزا، حيث رأيت الباميا الكبيرة، بعيدة، أربع ساعات بالطائرة تقريباً من هنا، وهذا يجعلها وكأنها في بلاد أخرى. كنتُ أريد أن ألمس حبة الكاكاو بيدي، وهي بألوان، ربما تعطي هذه الألوان درجات النضج. رفوف كاملة تضم زجاجات شفافة تحوي قلوب البامبوس المخلل، أكياس حبات بيضاء كأنها لبن مجفف، تبيّن لي في ما بعد انها حبات بطاطا مجففة. حينما وصلت الحي الياباني ضعت تماماً، أو ضيّعتُ نفسي بهجة في مشاهدة معروضات دكاكين الخضر، أو أنا أقلّب نظراتي بين أنواع مختلفة من المشروم، لم أرها في حياتي! على رغم انني زبون دكاكين يابانية، صينية أو كورية أو آسيوية في شكل عام، اينما كنت أو حللت، أشمّ رائحتها من بعيد. حاولت أن أسير في الأسواق الشعبية، كنت تركتُ بصري يجولُ بين غلال الأرض والبحر، في قعر المدينة القديمة طفت في سوق السمك والخضر والفاكهة، سرت من بائع إلى آخر، أحاول المقارنة والشم والتذوّق إن سنحت الفرصة أو تقبلت النفس ذلك، كنت قد استسلمت تماماً للمدينة وهي تغمرني بمعطياتها الكثيرة واختلافها وائتلافها مع المدن الأخرى الكثيرة التي شاهدتها، كنت ألاحظ ما لديها، وما ينقصها من تفاصيل أعرفها وأخرى لا أعرفها البتة. في ساو باولو أنت في قلب العالم، حتى وأنت تسير في أحزمة البؤس التي تحيط بالمدينة، هذا ما تشعر به أنت على الأقل.