تتواصل الجهود التلفزيونية للشاعر محمد مظلوم من خلال توثيق برامج تتصل بحياة شعراء الجيل السالف ممن تعارفنا على تسميتهم بالرواد. فبعد برنامجه عن حسين مردان ها هو يقدم شاعراً آخر ممن شغلوا الحياة الشعرية والنقدية على مدى نصف قرن، هو الشاعر عبد الوهاب البياتي. واختار لهذا البرنامج عنواناً شعرياً هو الآخر: «ضريح في المنفى»، متابعاً فيه «حياة الغربة» التي عاشها هذا الشاعر بامتياز، متوزعاً فيها بين «منفى اختياري» وآخر أرغم عليه.. وقد امتدّ هذا «المنفى» في حياة الشاعر، واتحد بتلك الحياة حتى «فاز» بالجانب الأكبر منها والأهم. ويكاد الشعر الذي كتبه في «المنفى»، وعنه، يكون الشعر الأهم تجربة وفناً من بين شعره، وكأنه وجد نفسه، تجربة وشعراً، في المنفى. وقد امتد به المنفى، حياة وحالة شعرية، شرقاً وغرباً، ما أغنى تلك الحياة وأغنى شعره فيها بكثير من الرؤى والرموز والتفاصيل التي لم تتأت لسواه من الشعراء على النحو الذي تأتت به له، وكأنه لم يجد لحياته بعدها الفعلي والحقيقي إلاّ في المنفى، وفي حياة الغربة والاغتراب. إلاّ أن هذا البرنامج الذي قدمته «قناة الشرقية» لم يأخذ «المنفى» بسعته كلها في حياة الشاعر، ولا تتبّع أبعاده وانعكاساته المهمة في تلك الحياة وفي التجربة الشعرية للشاعر، إن لم نقل إنه ابتسرها في «حالات» و «مواقف» تكاد تكون جزئية وبسيطة، بسّطت حياة الشاعر وعلاقته الشعرية بالمنفى، كما حاصرت المعاني والأبعاد التي تجلى فيها هذا المنفى شعرياً عنده. على صعيد آخر، هناك الجوهر الذي كان ينبغي البحث عنه في حياة الشاعر ومواقفه. هذا الجوهر الذي قد يكون الشاعر اظهره في حياته على غير حقيقته. فالمنفى في حياة البياتي منفيان: «منفى» عاشه برغبته ومسعاه إليه يوم أصبح «ملحقاً ثقافياً» في السفارة العراقية في موسكو بعد عام 1958 وحتى عام 1963.. والثاني عاشه يوم أصبح «مستشاراً ثقافياً» للسفارة العراقية في مدريد في ثمانينات القرن العشرين. وهناك منفى اختاره لأسباب سياسية (دمشق في خمسينات القرن العشرين، والقاهرة في الستينات).. والثالث «منفى» اختاره ايضاً بنفسه، ولكن لأسباب اجتماعية وحياتية (عمان، ودمشق في التسعينات، حتى وفاته، واختياره مثواه الأخير في دمشق قريباً من ضريح الشاعر الذي أفتتن به الشيخ محيي الدين بن عربي). هذه الحياة التي لم تكن أكثر من «قلق على قلق» هي ما حاول البرنامج أن يستأثر بجانب منها، إلاّ أنه أخفق في أن يقدمها بأبعادها الدرامية الكبيرة، فقدمها وكأنها حياة جرت في سكون، لا في حركة صاخبة، كما كانت في واقعها.. وهذا هو أول مأخذ على البرنامج: مادة، وإخراجاً. كما وقع المعد والمخرج معاً في ما يمكن أن نعده تكراراً في الوجوه المتحدثة عن الشاعر، فهي وجوه تكرر حضورها، وحديثها، في برامج أخرى، فضلاً عن كونها ليست خير من يتحدث عن الشاعر.. فهي لم تقدم، في ما قدمت، أكثر من «إضافات كلامية»، بينما المفترض، في مثل هذه الحال وعن تجربة كهذه في حياة شاعر مثل البياتي، أن تقدم إضافات تاريخية مهمة مما حفلت به حياته وعرفتها مواقفه. ولكن، كما يبدو، كانت «وجوهاً في المتناول» فتغلبت على الموقف. بينما ظل البياتي، الإنسان والشاعر، في تقلبات الزمن به وتقلباته بالزمن، حضوراً أقل من واقعه بكثير. فهل هي سعة الحياة التي لا يستوعبها برنامج له زمن محدود؟ أم هو اختزال الرؤية لتلك الحياة؟ ولكن مع هذه الملاحظات الأساسية، يبقى البرنامج، والبرامج السابقة للمعد عن شعراء آخرين سبق له أن قدمهم، تجربة توثيقية فنية يمكن بمزيد السعة والشمول والعناية أكثر بما تقوله «الشخصيات - الشاهد» أن نعيد حضور شعراء وأدباء لعبوا أدواراً مهمة في ثقافة العصر وفي حياة الإبداع فيه.