بذل محمد علي باشا الكبير جهداً كبيراً في تحديث مصر في مختلف المجالات، وقد حقق نجاحاً في كثير من النواحي، لكن منظومة التحديث كانت تحتاج إلى جهد أكبر؛ من أجل إتمام هذه العملية، ومن النواحي التي لم يطلها التحديث كان مجال البريد، غير أن حفيده الخديوي إسماعيل أدرك أهمية هذا الأمر؛ ومن ثم سعى إلى النهوض بالبريد المصري. وسار البريد في عهد عباس وسعيد على طريقة عصر محمد علي باشا، إذ كان يحمل براً من طريق السُعاة وبحراً على ظهور السفن للأغراض الحكومية، وهو ما فتح الباب أمام مكاتب البريد الأجنبية لتنشط في مختلف أنشطة البريد، وحققت من وراء ذلك أرباحاً طائلة. وكانت للجاليات الأوروبية مكاتب للبريد في الإسكندريةوالقاهرة يقوم عليها عدد من الموظفين يسلمون الخطابات إلى أصحابها ومن أشهرهم المسيو موتسي، الذي كانت له وكالة بريدية خاصة. وكان الخديوي إسماعيل قدر زار أوروبا وتنقل بين مختلف دولها قبل ولايته للعرش، وبهر بتقدم هذه البلاد ومن أهم الجوانب التي لفتت نظره هي انتظام وسرعة حركة البريد تحت إشراف الدولة المباشر، خلال هذه الفترة لم يكن في مصر نظام بريدي مستقر بل كان هناك عدد من أنظمة البريد تتداخل مع بعضها، ولا يخضع معظمها لإشراف الدولة، فلما ولّي الخديوي حكم مصر قرر تنظيم أمور البريد بما يضارع أحدث الأنظمة في أوروبا في ذلك الوقت، ومصدرنا عن هذا الأمر كتاب صدر حديثاً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة ضمن سلسلة ذاكرة الكتابة يحمل عنوان «إسماعيل كما تصوره الوثائق الرسمية». والكتاب من تأليف جورج جندي بك وكان يعمل رئيساً للمحفوظات التاريخية بديوان الملك فاروق - ملك مصر السابق - وجاك تاجر وكان أميناً للمكتبة الخاصة للملك. وأُهدي الكتاب إلى مقام: حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم فاروق الأول بمناسبة مرور خمسين عاماً على وفاة الخديوي إسماعيل، والذي كان الجد الأول للجالس على عرش البلاد. ومن خلال هذه الوثائق يمكننا تتبع حركة تطور البريد المصري فهناك وثيقة من وثائق قصر عابدين صدرت بتاريخ 29 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1864م تتعلق بحرص الخديوي على شراء هيئات البريد الخاصة وضمها إلى هيئة البريد الحكومية، ومن هذه الهيئات مجموعة مكاتب بريد كان يمتلكها المسيو موتسي وشركاه، وقد دفعت الحكومة المصرية مقابل هذا الشراء مبلغ 46000 جنيه مصري وتمت الصفقة وسلمت هذه المكاتب في 14 كانون الثاني (يناير) 1865م وتحولت عوائد هذه المكاتب إلى خزانة الحكومة المصرية من هذا التاريخ. وحتى لا تهتز المنظومة البريدية فقد عهد الخديوي للمسيو موتسي بأن يكون أول مدير لإدارة البريد المصري الحكومية ومنحه لقب بك. وعمل موتسي بإخلاص حتى اعتزل العام 1876م وخلفه المستر كليار الإنكليزي والذي رُقي لدرجة الباشوية وأُطلق اسمه على أحد شوارع الإسكندرية. ومن الأمور المحدثة التي تبناها الخديوي إسماعيل لتطوير البريد ، إدخال طوابع البريد لمنظومة البريد المصري، حدث ذلك كما تذكر إحدى الوثائق بسبب أن طوابع البريد في أوروبا قد حلت محل الأجرة، وهو كما تقول الوثيقة أسهل وأكثر فائدة، وبسبب الخبرة الكبيرة للأوروبيين في طوابع البريد فقد قرر الخديوي طباعة هذه الطوابع في أوروبا بكمية كافية، وأشرف على هذه العملية موتسي بك مأمور إدارة البريد المصري، والذي تولى كذلك الإشراف على نقلها إلى مصر. وقد قرر الخديوي أن تسلم هذه الطوابع إلى نظارة المالية لتحفظ بها، على أن يتم السحب من الكمية المطبوعة، وتسديد قيمتها لخزائن النظارة بشكل مباشر، باعتبار أن هذه الطوابع تساوي النقود في قيمتها. وبسبب همة الخديوي وإصراره على ترقية البريد المصري فقد اتسعت خدمة البريد المصري لتتجاوز الحدود المصرية كما تقول الوثيقة (61/1 عابدين) حول افتتاح مكتب بريد مصري في عاصمة الخلافة إسطنبول العام 1865م، كما ذكرت الوثيقة أن هناك العديد من مكاتب البريد تم افتتاحها في الوجهين القبلي والبحري العام 1867م والسودان العام 1877 ثم في أزمير وجدة العام 1866م وأيضاً في غاليبولي وبيروت وقوله وسالونيك وطرابلس الشام العام 1870م. وفي ظل تنامي حركة البريد المصري قرر رياض باشا أن تلغى كل مكاتب البريد الخاص في مصر وتكون حركة البريد بالكامل في يد إدارة البريد المصري الحكومية، وذلك كما يتضح من وثيقة وخطاب موجهين من رياض إلى قناصل الدول في 6 كانون الثاني (يناير) 1875م وقد احتج رياض باشا بقرار مؤتمر البريد الدولي الذي عقد في برن وأوصى بتبسيط وتسهيل خدمة البريد في مختلف دول العالم على أن تتولى هيئة «اتحاد البريد العالمي» الإشراف على هذه التسهيلات اعتباراً من أول تموز (يوليو) 1875م. وأوضح رياض في برقيته أن الحكومة المصرية لن تتمكن من تنفيذ ما يخصها من توصيات المؤتمر إلا بعدد من التدابير ومنها تصفية منظومة الدوائر البريدية المعمول بها في الوقت السابق، والتي سمحت بوجود عدد كبير من مكاتب البريد الأجنبية في مختلف أنحاء البلاد. كما أوضح أن استمرار عمل هذه المكاتب يؤدي إلى عدم وحدة منظومة البريد في مصر، وبالتالي من المهم أن تُلغى وتؤول للحكومة المصرية، ويكون لها وحدها حق نقل البريد في مختلف ربوع مصر. وفي رد فعل على هذا الخطاب لدينا وثيقة من بردسلي قنصل الولاياتالمتحدة في مصر وجهت إلى وزارة خارجية بلاده في 4 شباط (فبراير) 1875م أوضح فيها رغبة الحكومة المصرية في تصفية مكاتب البريد الأجنبية في البلاد، وأوصى بقبول هذا الأمر في ظل تطور منظومة البريد المصري وحسن نظامها واتساع نطاقها الجغرافي، بجانب ما قامت به حكومة مصر من تشييد مركز بريد رئيسي في القاهرة يتولى توزيع البريد على المراكز الفرعية في أنحاء البلاد. وأقر جون تيلي من موظفي مصلحة البريد الإنكليزية في رسالة وجهها إلى إدارته العام 1875م بتطور البريد المصري: «يقر المدير العام للبريد بأن مصلحة البريد المصرية تدار إدارة حسنة - على ما بلغه - وأنها فوق ذلك مستعدة لاتباع كل وسيلة من شأنها تحسين نظام البريد». وعلى هذا أوصى اللورد مانرز أنه في حال قبول الدول كافة بإغلاق مكاتبها في مصر فلا مانع لدي إنكلترا من إغلاق مكتبيها البريديين في الإسكندرية والسويس. ويتعجب جون تيلي في خطابه من توصية اللورد مانرز بقبول إلغاء هذين المكتبين في مصر، رغم رفضه إلغاء مكاتب إنكلترا البريدية في مختلف المدن التركية، لكنه يزيل سبب التعجب ويقول: «يظهر أن الظروف الخاصة بكل واحدة من هاتين الحالتين، هي سبب اختلاف هذين الرأيين، ففي تركيا لا يوجد أي نظام للبريد يمكن أن يقوم بالأعباء التي تضطلع بها مكاتب البريد الأجنبية، بينما قد أنشئ في مصر منذ بضع سنوات مكتب بريد وطني حسن الإدارة يؤدي عمله على وجه مرض، وهو قد حاز ثقة الجميع وتقديرهم». وكتب السير هنري إليوت سفير إنكلترا في تركيا في 25 آذار (مارس) 1875م رسالة أوضح فيها أن إدارة البريد الإنكليزية لم تتلق أية شكوى تتعلق بتوزيع البريد في مصر، وأكد أن «ليست مصلحة البريد المصرية حسنة الإدارة فحسب ولكنها فضلاً عن ذلك مستعدة للأخذ بكل الوسائل التي من شأنها تحسين سير نظام البريد». ويبدو أن هذه الرسالة كُتبت بسبب مشكلة قبول إلغاء مكاتب البريد الإنكليزية في مصر ورفض الأمر في تركيا لأنه في نهاية الرسالة يقول: «هناك فارق كبير بين مصر وتركيا. وتعتقد حكومة جلالته أن هذا الاختلاف يكفي في ذاته لتبرير الموقف المتعارض الذي وقفته في كل واحدة من هاتين الحالتين على التوالي». لكن الحكومة العثمانية احتجت على الأمر بشدة، إذ كيف يقبل إلغاء مكاتب البريد في مصر وهي مجرد ولاية من ولايات السلطنة ويرفض الأمر حين يطلب من قبل السلطنة ذاتها، ومن هنا كتب الدوق ديكاز إلى المسيو جافار في 12 حزيران (يونيو) عام 1875م يشرح الأمر موضحاً ما يترتب على قرار السلطنة باحتكار حركة البريد في أراضيها اعتباراً من أول كانون الثاني (يناير) عام 1876م وهو أمر خطير بسبب عدم رقي منظومة البريد في المناطق التابعة للخلافة في شكل مباشر، ويقر بجودة نظام البريد في مصر في ختام رسالته قائلاً:»إني لأعترف بأن نظام مصلحة البريد الخديوية أرقى بكثير من نظام المصلحة العثمانية». * كاتب مصري