مُنذ أن أصدر الخديوي إسماعيل الأمر العالي رقم 66 بتأسيس الكتب خانه في سراي مصطفى فاضل باشا بدرب الجماميز لتكون مقر الكتبخانة، في 20 ذي الحجة 1286ه (23 مارس 1870)، كأول مكتبة وطنية في العالم العربي، وهي تؤدي دورها كمنارة لمصر والمنطقة العربية بل للعالم بما تقتنيه من كنوز ثقافية نادرة: مخطوطات، برديات، أوائل المطبوعات، دوريات، لوحات فنية، عملات أثرية وغيرها من المقتنيات. وتغير اسم «الكتبخانة الخديوية» إلى «دار الكتب الخديوية» في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني الذي وضع حجر الأساس عام 1317ه كانون الثاني (يناير) 1899 لمبنى يجمع بين الكتبخانة الخديوية ودار الآثار العربية (المتحف الإسلامي حالياً) في ميدان باب الخلق، ثم افتتح الرئيس محمد أنور السادات مبنى دار الكتب المصرية بكورنيش النيل رملة بولاق في 8 تشرين الأول (أكتوبر) 1979، وكان المبنى يضم دار الكتب وهيئة الكتاب معاً ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا المبنى يعرف باسم «الهيئة العامة للكتاب» إلى أن صدر القرار الجمهوري رقم 176 لعام 1993 بإنشاء «دار الكتب والوثائق القومية» ثم صدر القرار الجمهوري باستقلالها عن الهيئة العامة المصرية للكتاب. ومن أشهر الشخصيات التي عملت في دار الكتب: أحمد لطفي السيد (1915 - 1918)، توفيق الحكيم (1951 - 1956)، أحمد رامي (وكيلاً لدار الكتب)، صلاح عبدالصبور (1979 -1981). وبمناسبة مرور مئة وأربعين سنةً على إنشائها عُقد المؤتمر الدولي «دار الكتب المصرية:140 سنةً من التنوير» برئاسة الدكتور محمد صابر عرب رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية خلال الفترة من 27 الى 30 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بمشاركة نُخبة من المفكرين والباحثين ورؤساء المكتبات الوطنية، من تونس، المغرب، السعودية ، قطر، اليمن، العراق، أميركا، انكلترا، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا وجنوب أفريقيا، وأعادت دار الكتب طباعة مجموعة من الكتب المهمة وهي: الشهنامة، عيون الأخبار، أصول نقد النصوص، تاريخ المساجد الأثرية، ومحاضرات في أوراق البردى العربية. ولفت عرب في كلمته الى أن «قرناً من تاريخ هذه المؤسسة العريقة يُثير فى الذاكرة الكثير من المعاني الكبيرة، ولم تكن دارُ الكتب الا حلقة متواصلة اكتملت كل مقوماتها مع نهاية القرن التاسع عشر حينما راحت مصر تحصد ثمار جهد جبار قام به رواد كبار من أعلام الثقافة والمعرفة». وكان علي مبارك أحد هؤلاء، حينما اقترح على الخديوي اسماعيل انشاء هذه الدار لكي يكتمل مشروع النهضة بمعناه الثقافي والحضاري والإنساني» ولفت عرب الى ان «دار الكتب هي أول من عُني بتحقيق التراث، الذي اكتملت عناصره على يد رواد كبار ارتبطوا بها ونشروا أعمالهم بمطابع الدار التي تأسست 1921». وتساءل الأمين العام لمنظمة المؤتمر الاسلامي البروفيسور أكمل الدين احسان أوغلو في كلمته: «هل هناك مكتبة في أي معهد لعلم في أي مكان في العالم لا توجد فيها تلك المراجع الأساسية التي بدأت الكتبخانة الخديوية تعنى بها لإحياء الآداب والعلوم العربية منذ عام 1910، مَن من علماء أو دارسي الثقافة الإسلامية يستغني عمّا نشرته دار الكتب منذ ذلك اليوم من مراجع مثل الأغاني للأصفهاني، صبح الأعشى للقلقشندي، النجوم الزاهرة لأبن تغري بردى، عيون الأخبار لابن قتيبة وما إلى ذلك من أمهات الكتب ونفائس الموسوعات. تلك النشرات العلمية الرائدة التي تميزت بالدقة البالغة في توثيقها العلمي والمستوى الفني العالمي لطباعتها وحروفها الجميلة وإخراجها الأنيق». ومواكبة للتقدم العلمي والثورة التكنولوجية التي تشهدها المكتبات في العالم، أشارت المشرف العام على دار الكتب د. ليلى جلال رزق فى كلمتها الى «مشروع رقمنة 50000 كتاب، ومشروع رقمنة المخطوطات واوائل المطبوعات بالتعاون مع مكتبة الكونغرس الأميركية، ورقمنة مجموعة البرديات العربية بالتعاون مع مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي وفهرسة وتوثيق المخطوطات بالتعاون مع جمعية المكنز الإسلامي، وتتويجاً لهذه المشروعات المتصلة في حفظ ورعاية التراث الإنساني البديع أدرجت ال «يونيسكو» مجموعتين من مقتنيات دار الكتب والوثائق في سجل برنامج ذاكرة العالم وهما حجج الأمراء والسلاطين، ومجموعة المخطوطات الفارسية المزينة بالصور». فاعليات المؤتمر توزعت على ثلاثة أيام ناقش المشاركون خلالها 30 بحثاً على مدار 6 جلسات تولى رئاستها كل من الدكاترة إبراهيم شبوح، بشار عواد، بديع جمعة، شبل الكومي، محمد عبدالرحيم كافود، الشاعر فاروق شوشة والكاتب السيد ياسين. ومن هذه الأبحاث: «خزائن الكتب في مصر وتأسيس الكتبخانة الخديوية» للدكتور أيمن فؤاد سيد أستاذ التاريخ الإسلامي وخبير المخطوطات ومدير مركز تحقيق النصوص بالأزهر، وأشار فيه الى انه «مع ظهور نمط المدارس مع الأيوبيين وازدهاره في عصر المماليك كانت خزائن كتب المدارس أهم ما يميز المدارس في مصر خاصة بعد سقوط بغداد وانتقال مركز الثقل الثقافي والحضاري إلى القاهرة. ومع العصر العثماني لعبت أروقة الأزهر دوراً مهماً في اقتناء الكتب، واستمرت خزائن كتب المدارس في أداء دورها التعليمي والثقافي، إلا أن بدء تعرف القوى الأجنبية إلى مصر وتردد قناصل الدول الأجنبية إليها جعل هذه الكنوز تتسرّب وتخرج منها». وتوقف د. مصطفى لبيب عبدالغني في جامعة القاهرة عند بعض «المستشرقين في دار الكتب المصرية» الذين تشكلت تجربتهم المعرفية العلمية المتميزة في دار الكتب المصرية ومنهم: كارلو ألفونسو نللينو (1872 - 1938) المستشرق الإيطالي الشهير، رائد دراسات تاريخ علم الفلك عند العرب، والذي درس في الجامعة الأهلية منذ إنشائها عام 1908 ثم عاود التدريس في الجامعة المصرية، وكان من أشهر تلاميذه طه حسين؛ اجناتي يوليا نوفتش كراتشكوفسكي (1883 – 1951) من أشهر المستشرقين الروس، وصاحب الدراسة المتميزة عن الآدب الجغرافي العربي وساهم في نشر روائع عدة من النصوص العربية القديمة كما ترجم إلى الروسية الكثير من عيون الآدب العربي القديم والمعاصر؛ هنريك صمويل نيبرج (1899 – 1974) المستشرق السويدي الشهير، الذي نشر كتاب الانتصار للخياط وطبعته دار الكتب المصرية عام 1935 وهو من أهم المصادر في دراسة مذهب المعتزلة؛ ماكس مايرهوني (1874 - 1945) طبيب العيون الألماني، الذي استوطن القاهرة وقضى فيها بقية حياته، وهو صاحب الدراسات القيمة عن تاريخ الطب العربي والفلسفة العربية، جوزيف شاخت (1902 - 1969) الألماني، الذي ساهم في تحقيق الكثير من النصوص ونجاحه في مجال الفقه الإسلامي، وأشرف على كتاب «تراث الإسلام، وعلى دائرة المعارف الإسلامية فى طبعتها الأوروبية الثانية؛ جون آرثر أربري (1902 - 1969) الذي رأس قسم الدراسات اليونانية واللاتينية عند إنشائه في الجامعة المصرية، وهو مترجم معاني القرآن إلى اللغة الإنكليزية، وساهم فى نشر الكثير من عيون التراث الصوفي الإسلامي؛ بول كراوس (1904 - 1944)، الألماني كان مدرساً للفلسفة في الجامعة المصرية، واشتهر بدراساته الرائدة في تاريخ العلوم العربية وبخاصة كيمياء جابر بن حيان. واستعرض د. محمود الشيخ من جامعة فلورنسا – إيطاليا (مخطوطاً مجهولاً بخط ياقوت المستعصي)، وأهمية هذا المخطوط أولا أنه مجهول حتى الآن ولم يذكره أي من المهتمين بالخط العربي أو من المختصين في أعمال وتاريخ المستعصمي، ثم الزخرفة التي يتميز بها دون غيره من المخطوطات والتي تطابق فى براعة الخط ودقة الإخراج الكافية لابن الحاجب التي نسخها المستعصمي عام 190 هجري والمحفوظة في مجلس شورى ملي في طهران، والأهم من ذلك كله أن هذا المخطوط يضيف إلى أعمال المستعصمي وإلى تاريخ الخط العربي عملاً جديداً. وفي ورقته «صحراء المملكة العربية مكتبة مفتوحة ومثلها في مصر»، دعا د. عبدالرحمن الطيب الأنصاري من المملكة العربية السعودية، الى «تكوين فريق علمي من علماء اللغة العربية وفقه اللغة والاجتماع على مستوى الوطن العربي لدراسة النقوش والفنون والرسوم التي تزخر بها الجزيرة العربية، والساحل الغربي للبحر الأحمر بكميات لا تعد ولا تحصى». وأضاف: «ألا يجدر بنا أن نهتم بهذا الجانب ونضمه إلى مكتباتنا ونحن نحتفل بمرور مئة عام على إنشاء دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة». وتناول د. المهدي بن محمد السعيدي من جامعة ابن زهر في المغرب في دراسته «المخطوطات المغربية والأندلسية فى دار الكتب المصرية، تصنيف وتحليل» المخطوط المغربي والأندلسي، وبيان أهميته ونفاسته، وتحليل مكوناته المعرفية وأوعيته المادية انطلاقاً مما تضمنته كتب الفهارس والبيبليوغرافيا، والنصوص المحققة استناداً إلى نسخ الدار، لاستنساخ دور دار الكتب المصرية فى خدمة هذا التراث خصوصاً وصيانة التراث العربي الإسلامي عموماً. ولفتت د. اليسون أوتا رئيس الجمعية الأسيوية الملكية لبريطانيا العظمى وإرلندا فى دراستها «الكتب المذهبة: الكنوز المملوكية فى دار الكتب» الى ان صناعة إنتاج الكتب «ازدهرت في مختلف أنحاء السلطنة المملوكية، فكانت القاهرة ودمشق بمثابة مراكز مهمة لهذه الصناعة واليوم تشهد مجموعات المخطوطات المملوكية المنتشرة في جميع أنحاء العالم على هذا التأكيد. وقد كانت القاهرة المركز الثقافي والديني والفكري للعالم الإسلامي ونشأ فيها وسط اجتماعي كانت للكلمة المكتوبة فيه قيمة وعزة وقدر، وقد أمر سلاطين وأمراء المماليك وصفوة المجتمع بكتابة هذه المخطوطات واقتنائها بمكتباتهم الخاصة، كلما قاموا بتنفيذ برنامج معماري واسع لبناء مؤسسات أخذت شكل المسجد والأضرحة والمدارس والزوايا والخانقاوات، وفى كثير من الأحيان كانت تضم هذه المباني معاً لتشكيل مجمع واحد غالباً ما كان يشمل بداخله مكتبة. إن مجموعة هذه المصاحف الموجودة في دار الكتب ذات قيمة خاصة لما تقدمه من دلائل ورؤى في مجال صناعة وإنتاج المخطوط خلال هذه الفترة، وستتم دراسة هذه المخطوطات من حيث التجليد والتذهيب وكيف ساهم ذلك فى فهم أعمق ل فنون الكتاب آنذاك». وفي نهاية المؤتمر قدم أوغلو (تركيا)، إبراهيم شبوح (تونس)، بشار عواد معروف (العراق)، ومن مصر حسين نصار، صلاح فضل، أحمد مرسي وأنسام برانق، شهادات عن الدور الذي قامت به دار الكتب في مشوارهم الثقافي: فكراً وتنويراً وإبداعاً.