منذ عرضه في تظاهرة أسبوعي المخرجين في مهرجان «كان» السينمائي، لم يكف الفيلم الروائي الطويل الاول للمغربية ليلى كيلاني («على الحافة») من التجوال في المهرجانات، من تظاهرة ربيع السينما العربية التي أقيمت في باريس الى مهرجان ابو ظبي الذي منحه شهادة تنويه بالبطولة النسائية والمهرجان الدولي للفيلم المستقل في بروكسيل حيث نال جائزة لجنة التحكيم ومهرجان سالونيك... ولن تقف جولات الفيلم عند هذا الحد، إذ سيكون على موعد مع أكثر من حدث سينمائي، أبرزها مهرجان مراكش، حيث يخوض اختباره الاول امام الجمهور المغربي بعدما أثار إعجاب المشاهدين في الخارج. تترقب كيلاني هذا الموعد، خصوصاً ان الفيلم يتناول العالم السفلي لميناء طنجة من خلال قصة فتاة، يحوّلها عملها في مصنع لتقشير القريدس، ضحية من ضحايا جشع الشركات الكبرى التي لا ترى في اليد العاملة الا آلات، ما يجعلها على حافة الهبوط في مستنقع الجريمة. وأمام سودواية الواقع لا تتوانى بطلتنا عن تأليف عصابة مكوّنة من أربع فتيات، تغرق شيئاً فشيئاً في ظلمة يصبح صعباً جداً الخروج منها. «الحياة» التقت ليلى كيلاني في مهرجان أبو ظبي، وحاورتها حول الفيلم ومشاركتها في مهرجان «كان». ماذا يعني لك وصول فيلمك الروائي الطويل الأول الى مهرجان «كان» السينمائي؟ - هذا الفيلم كان مخاطرة كبيرة على الصعيدين الإنتاجي والفني. فهو ليس فيلماً من السهل تصويره، خصوصاً انني أردته ان يكون نابضاً بالضغط والتهور، من دون ان أنسى الكتابة التي هي في رحلة بحث دائم. لذا أريد ان أعبّر عن شكري الكبير للمولفة تينا باز التي استطاعت في المونتاج ان تعبّر الى أبعد الحدود عن هذا البحث، لا سيما ان الشخصية الرئيسة ليست من النوع الذي تتعاطفين معه بسهولة. ولا انكر ان بعض الذين شاهدوا الفيلم كرهوا هذه الشخصية الى ابعد الحدود، في حين أحبها آخرون. هي شخصية لا يوجد من حولها إجماع. وعندما تأخذين هذا التحدي، إضافة الى تحدي الكتابة بطريقة تعتمد على التوتر والطاقة، بعيداً من السرد التقليدي، لا تكون لديك قدرة على التخمين ما اذا كان هذا الأسلوب سينال الاستحسان ام لا. أقول هذا من دون ادعاء، فأنا لم أدخل مدرسة السينما، وما قدمته في الفيلم هو نتاج البحث الدائم الذي أعيشه. كما ان ظروف التصوير لم تكن سهلة. إذ سبقته تحضيرات كبيرة وعشنا أيام تصوير طويلة، خصوصاً انني أصوّر مع ممثلات غير محترفات. عندما تأخذين هذه المخاطرة، وهي بأي حال مخاطرة «سينما المؤلف»، يصبح لديك خوف وتتعلقين بأمل ان يكون للفيلم وجود، وأن يحظى بفرصة عرض امام الجمهور. من هنا أتذكر شعوري جيداً حين أخبرتني منتجة الفيلم الفرنسية، قبل ان اعلم بترشيح «على الحافة» لمهرجان «كان»، أن أحدهم في اللجنة همس لها بأنه أحبّ الفيلم كثيراً... كنت حينها على حافة البكاء، ورحت أقول للمنتجة، أتظنين فعلاً ان أحداً سيحبّ الفيلم؟ ولا انكر ان هذا الفيلم كان من الصعب تحمله، لكنّ أشخاصاً كثراً تحملوه بعدما آمنوا بي. اما وجودي في «كان» فكان معجزة بالنسبة إلي. وأنا فخورة جداً بأنني كمغربية استطعت ان أحمل فيلمي الى أعرق المهرجانات السينمائية. تعرية مجتمع هل من السهل تعرية المجتمع المغربي وانتقاد المشاكل الاجتماعية فيه؟ - لا أشعر انني كنت في مهمة انتقاد المجتمع المغربي عندما اعددت الفيلم. كما كان لديّ الحظ بأن المركز السينمائي المغربي يدعمني. اما في ما خصّ المجتمع المغربي فيبدو الفيلم مبهماً. أحياناً هو مجتمع تقليدي الى ابعد الحدود. وأحياناً نراه يحتضن تيارات من كل الاتجاهات. في الفيلم أردت ان أصوّر فتاة مكافحة، لكنني لم أشأ في الوقت ذاته ان أحمل راية الدفاع عن قضية او ما الى ذلك. في المغرب نعرف جيداً الحدود بين ما هو مسموح وما هو ممنوع، والشباب المغربي شباب متمدن ومكافح وذكي، يعرف كيف يمزج الأدوات ويدير الغضب الذي في داخله. أنا انتمي الى هذا الجيل والى هذا البلد. ما الصعوبات التي واجهتها عند إعداد «على الحافة»؟ - لم تكن هناك صعوبات إلا الوصول الى أسلوب سينمائي خاص للحديث عن قصة عصابة مؤلفة من أربع فتيات يعشن في مدينة طنجة. الصعوبة هي صعوبة كل مخرج للوصول الى ادواته ولغته السينمائية. لماذا اخترت مدينة طنجة بالتحديد مسرحاً للأحداث؟ - انا اساساً من طنجة، وكبرت وفي رأسي أفكار حول هذه المدينة، وقصص عن المافيا والعصابات. رأيت طنجة وهي تتغيّر في العمق. فهي، مرفأ، وككل المدن/ المرافئ، لديها علاقة خاصة جداً بالقانون. كما انها مدينة تستوعب اهل الريف ومغاربة الداخل والأفارقة الذين يجتازونها للعبور... وقد شهدت تحولات كثيرة، وأضحت القاعدة الخلفية لصناعات عالمية كثيرة، فما يحدث في طنجة، يشبه ما يحدث على الحدود الصينية والمكسيكية. وهذه الظاهرة ساحرة وغريبة في آن. فهناك مادة آتية من بلد ما، تُصنّع في بلد ثان لتُصدّر الى بلد ثالث. في الفيلم أخذت نموذج العاملات في تقشير القريدس. فهو يأتي من البحر الشمالي، ويُقشّر في طنجة، ليعود ويعلّب في مكان آخر، ويباع حول العالم. هذا كله يرمز الى ما يشهده العالم اليوم من تغيرات. وهذا المزيج يتمّ استناداً الى جيش من الأيدي العاملة، وهو أحد نماذج العولمة. فالقرية العالمية ليست «فايسبوك» وحده، لكنّ ما يحدث في طنجة يمكن اعتباره ايضاً مثالاً على العولمة. هذا كله غيّر المدينة، من دون ان ننسى ان النساء في المغرب أصبحن المعيل للعائلة. من هنا، فإن علاقة التحرر الحسية التي تمرّ من خلال العمل كافية لتخلق المسمار الاول في المخيلة السينمائية. رعاة بقر لماذا اخترت ان تكون «بديعة»، الشخصية الرئيسة في الفيلم، مراهقة أقرب الى الصبيان بتصرفاتها منها الى بنات جنسها؟ - أردتها ان تتشبه برعاة البقر، ولكن على طريقة كالاميتي جاين (أسطورة اميركية شاركت في الحروب الهندية). كان الرهان في إيجاد علاقة بين هذين النمطين، بما انني قريبة من الويسترن الاميركي والأفلام السوداء. اما في الحياة طبيعية، فهي فتاة لا ينقصها شيء من الانوثة. لذا، كان عليّ، أثناء التحضيرات، أن أُخضعها الى جانب الشخصية الرئيسة الثانية الى دورة تدريبية في احد مصانع تقشير القريدس، بعيداً من أجوائهما الطبيعية لتعيشا الضغط والتعب. وفي عملية بناء هاتين الشخصيتين لم تكن التحضيرات ذهنية بل جسدية. لم يكن هناك حوار بسيكولوجياً حول الشخصيات، بل كنا نتفق على الحركات وطريقة التنفس والإيقاع. كان عملاً خاصاً جداً. وأكثر ما ركزت عليه هو عملية التفاعل مع الفضاء والزمن والآخر. كان البناء الجسدي هو الأهم بالنسبة إلي، والشخصيات الرئيسة سرعان ما فهمت دورها جسدياً. فمثلاً، عندما عرضت عليها مجموعة افلام لمشاهدتها عشقت أفلام كين لوتش ووجدت ان الشخصيات صادقة جسدياً. كان كل شيء بعيداً جداً عن عالمهما. وكانتا مندهشتين به. حتى ان صوفيا (بديعة) قالت لي لو كنت فعلاً مكان «بديعة» لأحرقت هذا المصنع. إذ ليس من السهل ان تعملي في ظل هذه الظروف القاسية وأن تتقاضي على الكيلوغرام. من هنا كان لا بد من ان تُجيدا الحركتين السحريتين لتقشير القريدس بطريقة أسرع، وكان عليهما ان تتآلفا والمكان ليقتنع المشاهد بواقعهما المزري. ولكن لماذا إهمال الجانب البسيكولوجي بالتركيز على الجانب الجسدي؟ - هو شكل من أشكال التعبير، فالقصة تدور حول مراهقة آتية من بيئة شاقة لتعيش في طنجة. أردت ان تكون قصة 4 فتيات في سباق، وقصة فتاة في حالة هوس. فتاة تدور حول نفسها، وإذا توقفت تقع. حدثينا عن تجربة العمل مع ممثلات غير محترفات؟ - مررنا بتحضيرات طويلة جداً. وحاولت قدر المستطاع ان أبعدهنّ عن كل خيالاتهن حول السينما، خصوصاً انهن لا يعرفنّ حول التمثيل إلا القليل مما يشاهدنه في المسلسلات. بدأنا بمشاهدة الافلام. وكان هناك عمل حول تلقيهنّ للفيلم. لم نقرأ أبداً السيناريو بالكامل، إنما اشتغلنا مشهداً مشهداً على الايقاع والجسد والتنقلات. أثناء الكاستينغ لم يكن هناك اي ارتجال، إذ لا بد من ان يأتي من أشخاص أصحاب تجارب متينة جداً ونضج في التمثيل. هذا كان واحداً من أوائل مخططاتي التي أُحبطت. ومع هذا لا انكر انهنّ استطعنّ ان ينقلن الضغط. وهذا كان صعباً عليهنّ. كنّ يعملنّ ل10 ساعات في اليوم، ويعدن المشهد اكثر من مرة، على رغم انهن في البداية حلمن قليلاً، خصوصاً اننا كنا نسكن في فيلا خاصة، وكان لديهن شعور انهن في «ستار أكاديمي». وكان أول إحباطات «بديعة» اننا لم نحولها الى نجمة، إنما اردنا ان تكون فتاة عادية. لذا كانت تضع ماكياجاً بالخفاء، خصوصاً انها كانت تحلم بالتشبه بنجمات مثل نانسي عجرم. ثم تغيّرت الامور، وأرى ان المسافة التي قطعتها الشخصيات جيدة جداً لأن الأشياء تغيرت في منظارهنّ، خصوصاً علاقتهن بالسينما. كنت مدهوشة كيف تغيرت رؤيتهن للمسلسلات وكيف اصبحن يشاهدن الافلام. كنت اشعر في البداية انني أعمل مع مراهقات كبيرات، لكنهن الآن ممثلات كبيرات. لماذا التحول الى السينما الروائية بعد تجربة في السينما الوثائقية؟ - صحيح ان الوثائقي والروائي سردان مختلفان، لكنّ كلاهما في النهاية لغة سينمائية. وبصراحة لم أفكّر يوماً بأن الوثائقي يعني الصف الابتدائي، والروائي الصفّ الثانوي. فهي ليست مسألة تراتبية، بل إن الموضوع برأيي هو الذي يحدد عملية الاختيار. في ما خصّ هذا الفيلم شعرت منذ البداية ان السينما الروائية هي القادرة على التعبير عنه. وأتتني الفكرة حين كنت أصوّر وثائقياً عن طنجة، ولمست كم تغيّرت هذه المدينة، وتعرفت الى جيش النساء من الأيدي العاملة، وظروف عملهن. كان هناك بعد كبير لفيلم روائي من نمط الأفلام السوداء، وهذا لا يمكن ان يترجم إلا في خيالي. وقلت في نفسي لا بد من ان احقق هذا العمل. كنت أرى الشخصية تركض في رأسي، ولم أتخيل قط انني سأحقق وثائقياً عن الموضوع على رغم ان عدّة الأفلام الوثائقية كانت معي، وكنت أمضيت آلاف الساعات مع العاملات. لكن عندما بدأت الكتابة نسيت الوثائقي، كما لم أشأ ان يكون فيلمي فيلماً اجتماعياً يأتي ليفسّر بطريقة مأسوية واقع العمالة النسائية. هل سيُطرح فيلمك في الصالات المغربية؟ - نعم. وأعتقد انه سيشارك في مهرجان الفيلم الوطني. وهذا هو الاختبار الحقيقي للفيلم، فالجمهور الأصعب بالنسبة إلي هو الجمهور المغربي، لكنه في الوقت ذاته الأكثر استقبالاً لأفلامه المحلية. ففي المغرب يقصد الناس الصالات لمشاهدة الأفلام المغربية، حتى لو كان رد فعلهم غير ايجابي أحياناً، خصوصاً انهم ينتقدون بقسوة. «على الحافة» أنتجته لهذا الجمهور. ولدينا الحظ في المغرب ان نصنع افلامنا بأموال مغربية وأن تكون لدينا سينمات متنوعة من السينما الشعبية الى السينما الكلاسيكية الى سينما المؤلف... ليست هناك سينما مغربية واحدة، بل هناك أفراد يصنعون أفلاماً مغربية. ثم ان الحراك الذي تجدينه في الشارع ينعكس في السينما. المهم ان ننتج صورتنا الخاصة، ولا نسأل اي فيلم نريد ان نحقق إنما نصنع أفلاماً فحسب، لأن للتراكم إيجابيات. من هنا يجب ان نحمي مؤسسات مثل «سند» في ابو ظبي لديها إيمان بأن العالم العربي لا بد من ان يموّل افلامه، ونحن في المغرب محظوظون في هذا المجال.