لا يمرّ اسم هيفاء المنصور من دون أن يثير سجالاً من حوله. فهي أول امرأة سعودية تمتشق الكاميرا وتحقق أفلاماً قصيرة، تدنو من قضايا شائكة في مجتمعها. وهي أول سينمائية تصنع فيلماً روائياً طويلاً يصوّر بكامله داخل المملكة. وهي، أيضاً، أول سعودية تخترق الأسواق الأوروبية والأميركية بفيلمها «وجدة»، في اعتراف واضح بموهبة سينمائية سعودية نجحت في كسر الحواجز. ويقيناً أن فيلم «وجدة»، ومنذ عرضه العالمي الأول في مهرجان البندقية السينمائي استطاع أن يلفت الأنظار ويخطف الجوائز. آخرها كان فوزه بنصيب الأسد في مهرجان دبي السينمائي الدولي حيث انتزع جائزة أفضل فيلم وأفضل ممثلة (الطفلة وعد محمد). «الحياة» التقت هيفاء المنصور في دبي، وسألتها عن الفيلم والمرأة بين مواضيع أخرى. ما حجم التحدي الذي شكّله تصوير «وجدة» في السعودية، خصوصاً أنه أول فيلم روائي طويل يصوّر بكامله داخل المملكة؟ - لم أتعامل مع الموضوع على أساس التحدي، ففي السعودية وتحديداً في الرياض، هناك حركة تصوير درامية كبيرة، لا سيما في ما يتعلق بدراما رمضان. ولا أنكر أنني دُهشت خلال تصوير «وجدة» بدوران الكاميرات في أكثر من موقع. من هنا فإن كل ما فعلته هو أنني سرت على الأطر الموجودة في البلد تبعاً للنظم والقوانين. بالتالي قدمنا طلباً للتصوير مثلما يقدم أي طلب يتعلق بأي عمل درامي آخر، واستخدمنا أشخاصاً ممن يشتغلون في هذا الحقل وعلى دراية بما هو موجود. كان مهماً جداً بالنسبة إلينا أن نعرف آلية العمل المتبعة ونسير تبعاً لها. وكان لا بد أن نعرف ما هو موجود في المجتمع ونبني عليه، لتكون السينما من نسيج هذا المجتمع لا من خارجه. مرآة لمجتمع محافظ إلى أي مدى يمكن القول أنك سرت خلال تصوير الفيلم في حقل مزروع بالألغام؟ -أنتمي إلى مجتمع محافظ وتقليدي، كما أنني امرأة، بالتالي، فإن كثيرين لديهم تحفظات عليّ قبل أن يشاهدوا أفلامي. أحب أن أصنع أفلاماً عن شخصيات قلقة من نظرة المجتمع، وأسعى للتعامل معها بحنان. فهؤلاء هم أهلي وأرغب في أن يحبوني ويروا أنفسهم في أفلامي وألا يشعروا بألم وهم يرون انعكاس صورتهم في كاميرتي. حتى وأنا أقدم أعمالاً عن المرأة، أحققها وفي ذهني كيف سيتلقى هؤلاء الفيلم وكيف سيشاهدون أنفسهم. هم تقليديون وأنا أحترم ذلك. هم محافظون وأنا أحترم ذلك. المهم ألا نجعل السينما أداة تستفز الناس، بل أداة تسعدهم. حاولت كثيراً أن أقدم شيئاً له معنى، يعكس ثقافتي ورأيي ولا يجرح الناس في الوقت ذاته أو يؤلمهم. لم أحاول أن أكون صدامية أو أتلاطم مع مجتمعي. أعرف أن السينما أمر جدلي، وأعرف أن كوني امرأة في مجتمع محافظ أمر جدلي أيضاً، لكنني في الوقت ذاته لا أحب الصدام وأبتعد عنه، لذا أحاول أن أفتح حواراً وأتكلم مع الناس. كونك امرأة حتّم عليك العمل من داخل سيارات الإنتاج في عدد من المناطق. كيف تقوّمين التجربة؟ - أحترم الثقافة السعودية وأحترم الناس الذين يتضايقون من مشاهدة امرأة في الشارع، فالسعودية بلد محافظ والاختلاط صعب. ولكن يجب ألا نضع هذه العوائق أمامنا بحيث تجعلنا عاجزين عن الحركة. في السعودية، ثقافة البلد حتّمت عليّ أن أدير التصوير من داخل سيارة الإنتاج، ولو كنت مثلاً في روسيا، لكان البرد القارص دفعني إلى ذلك أيضاً. فلكل بيئة صعوباتها. وفي نهاية الأمر لا يمكنني أن أخفي سعادتي وفخري بالتصوير في الرياض، إذ شعرت هناك أنني اقتربت أكثر من جذوري. خصوصاً أن الشارع بالنسبة إلي كفتاة، ثقافة غائبة تماماً. فنحن نتنقل من السيارة إلى المعمل والبيت. من هنا، كانت التجربة مجدية جداً، وعرفت من خلالها بلدي أكثر وأحسست بأهمية الأرض. يدنو الفيلم بقصته البسيطة من قضية شائكة تتعلق بالمرأة في المجتمع السعودي. لماذا؟ - وضع المرأة في السعودية شائك ومحاط بكثير من الجدل. من هنا لم أحاول أن أتدخل كثيراً. كل ما فعلته هو أنني سلّطت الكاميرا على واقع معين من دون أن أقدم وجهة نظري. قدمت شريحة من الناس وفتحت نافذة على المجتمع السعودي. فهذه هي السينما التي أحب، أي تلك التي تفتح الطريق وتجعلك كمشاهدة، تفكرين وترغبين أكثر في معرفة الآخر. أما المخرج الذي يحاول أن يضع رأيه، فيتحوّل فيلمه إلى مقالة صحافية. ولا أنكر أنني حين كتبت الفيلم كنت مدركة جيداً أنني انتمي إلى مجتمع محافظ وتقليدي، بالتالي كنت أكتب ضمن النطاق المسموح لي. ولكن، هذا لا يمنع أن يكون لي صوتي ورأيي في إطار احترام المكان الذي أنتمي إليه. قد يرى بعضهم فيلمي جريئاً لكنني لم أخرج من الأطر المفروض أن أكتب بها. صعوبة التمويل على رغم حرصك على عدم استفزاز أحد من خلال فيلم «وجدة»، غير أنّ كثيرين سيُستفزون قبل مشاهدة الفيلم. ماذا تقولين لهؤلاء؟ - صحيح هناك من سيُستفز لفكرة أن امرأة سعودية تصنع فيلماً. لكنني أقول لهؤلاء، أحب بلدي وأحترم القوانين والتقاليد وعادات المجتمع المحافظ، كما أحاول ألا يكون وجودي مثيراً. هم في نهاية الأمر أهلي، وأتمنى أن يشاهدوا فيلمي قبل أن ينتقدوه وأن يكون بيننا احترام وحوار. ماذا عن العوائق التي واجهتك في هذا العمل؟ - كان الحصول على تمويل صعباً جداً، خصوصاً أن كثيرين يترددون في تمويل أعمال آتية من الخليج لأن سوقها صعبة. من هنا كان لا بد من إيجاد أحد يؤمن بضرورة هذه الصناعة في بلادنا، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات. وفي إطار توجه الأمير الوليد بن طلال لدعم المرأة والسينما السعودية، دخلت شركة «روتانا» في الإنتاج إلى جانب شركة «رايزر فيلم» الألمانية. ولكن لا يمكن أن تتصوري حجم المعاناة التي تكبدناها قبل أن نجد شريكنا في الشرق الأوسط. يبدو تأثرك بالسينما الإيرانية واضحاً؟ - استفدت كثيراً من السينما الإيرانية، فهي على رغم أنها آتية من مجتمع محافظ تُكبله رقابة شديدة، لم يمنعها شيء من التطرق إلى أمور مهمة في مجتمعها. وأعتقد أن من الجيد أن نستفيد من تجارب الآخرين سينمائياً وأن نحاول أن نكوّن صوتنا الخاص. ولا أنكر أنني تأثرت كثيراً بجعفر بناهي، خصوصاً في فيلم Off side، لأن سينماه ملونة ويافعة وبسيطة. كما تأثرت بالواقعية الجديدة في السينما الإيطالية، وبالفيلم البلجيكي «روزيتا» للأخوين داردين. صحيح فيلمي ليس سوداوياً مثل فيلم «روزيتا»، لكن شخصية الفتاة التي لا تقبل الهزيمة أو أن يُهبطها أحد، ظلت تدور في رأسي وأنا أكتب شخصية «وجدة». يبتعد فيلمك عن صورة المرأة الضحية. فهل حرصت على ذلك؟ - مللنا من صورة المرأة الضحية والبكائيات. ولكن هذا لا يعني ألا نقدّم قضايا، إنما ضمن روح الأمل والتمسك بالحياة والإصرار على العمل. هي قيم إنسانية بسيطة أتمسك بها بعيداً من الشعارات الكبيرة. فالشعارات استقطابية، إما تكونين معها أو ضدها، وبالتالي فإن جمهورها جاهز. ثم لماذا مخاطبة من هو معك أصلاً؟ صحيح هناك الآن حراك ثقافي ومناخ مشجع للمثقفين في ظل ما نشهده من ثورات في العالم العربي، ولكن المهم ألا ينساق السينمائيون وراء هذه الشعارات بعيداً من تقديم قصصهم. بطلة «وجدة» فتاة «شقية» تريد أن تجد صوتها وألا ترضخ. وفي رأيي مهم جداً أن تبتعد المرأة عن فكرة العجز وأن تنظر إلى أمام من دون استسلام. هل من الممكن أن تلعب السينما هذا الدور؟ ولمن صنعت هذا الفيلم خصوصاً أن لا صالات سينمائية في السعودية؟ -هناك وسائل عدة ليشاهد فيها السعوديون فيلمي. ولا يمكن أن أعبّر عن مقدار فرحتي بأولئك الذين قصدوا دبي خصوصاً ليشاهدوا الفيلم. ثم إن الأفلام تصل إلى السعوديين في شكل كبير عن طريق التلفزيون والأقراص المدمجة. صحيح ليس لدينا ميزة أن يكون لدينا صالات سينمائية، لكنّ الفرد السعودي مستهلك كبير للسينما. من هنا، فإن الفيلم سيصل إلى السعوديين من دون أدنى شك. وهناك أمور كثيرة في الفيلم لن يفهمها إلا السعوديون. اللافت أنك لم تديني الرجل في الفيلم على رغم انحيازك إلى المرأة. لماذا؟ - أشعر أن الرجل في المجتمع السعودي مظلوم بدوره. فنحن نعيش في مجتمع قبلي يشكّل بعض سلوكياته، ضغطاً نفسياً كبيراً على الرجل. من هنا لم أدنه، بل حاولت أن أسلط الضوء على تعلق الزوجة بالوهم قبل أن تُصدم في النهاية. فالمرأة تتمسك أحياناً بقشة وتخاف أن تؤمن بنفسها، وأحياناً لا تمتلك الشجاعة لأن المجتمع صعب. هل واجهت صعوبات في اختيار بطلة الفيلم، خصوصاً أن إيجاد فتيات مستعدات للوقوف أمام الكاميرا في بلد محافظ مثل السعودية صعب؟ - طبعاً لم يكن الأمر سهلاً البتة، ومع هذا هناك آلية عمل موجودة وشركات إنتاج تنظم فعاليات في العيد، كما هناك فتيات صغيرات يشاركنّ في استعراضات الجنادرية. وقد تعاملنا مع هذه الشركات لتسهيل المهمة. وأذكر أنني عندما تعرفت على وعد محمد (بطلة الفيلم) في أولى تجارب الأداء في الرياض، كانت ترتدي جينزاً وحذاء رياضياً وتضع سماعات في أذنيها، تستمع من خلالهما إلى جاستن بيبر على رغم أنها لا تتقن الإنكليزية. وجدت فيها ما أبحث عنه في الشخصية، فهي تنتمي إلى شريحة الشباب الذين تجمعهم قواسم مشتركة على رغم انتمائهم إلى بلدان مختلفة. وقد أجادت في لعب الدور. هل كان سهلاً عليك التعامل مع ريم عبد الله الآتية من خلفية تلفزيونية لا سينمائية؟ - جميع الممثلين الذين شاهدتموهم في الفيلم يشبهون روح الشخصيات التي يجسّدونها. صحيح أن بدايات ريم كانت في التلفزيون، لكنها ممثلة ذكية جداً، وعرفت سريعاً كيفية التمييز بين العمل للسينما والعمل للتلفزيون. وأعتقد أن عامل الثقة بين المخرج والممثل أساسي، علماً أن أكثر أمر استمتعت به في هذا الفيلم هو قربي من الممثلين. عالم أعرفه جيداً إلى أي مدى رسمت شخصية «وجدة» انطلاقاً من تجربة شخصية؟ - ترعرعت في عالم شبيه بعالم وجدة. مثلها قصدت مدارس حكومية، وتربيت في بيت تقليدي جداً. ومع هذا لم أشعر يوماً بأنني غير قادرة على تحقيق ذاتي. كما لم أشعر بأي ضغط نفسي لمجرد أنني فتاة. صديقاتي كانت لديهنّ أحلام كبيرة، لكنّ بيئتهن مختلفة، ولم يتمكنّ من تحقيق ذواتهنّ. من هنا فإن الفيلم عنهنّ أكثر مما هو عني. ولكن بما أنني عشت وسط هذا العالم، فأنا أعرفه معرفة حميمة وأشعر أن جزءاً مني فيه. كيف تشكّلت علاقتك بالسينما خصوصاً أنك تأتين من بلد لا سينما فيه؟ - علاقتي بالسينما تشكّلت وأنا صغيرة جداً، إذ كان التلفزيون السبيل الوحيد لإحلال الهدوء في المنزل، خصوصاً أننا عائلة كبيرة تضم 12 أخاً وأخت. كانت الأفلام المصرية وأفلام جاكي شان نافذتي إلى العالم بما أنني أنتمي إلى مدينة صغيرة جداً. وكان طموحي كبيراً، وسرعان ما رحت أصنع أفلامي وحدي من دون أي تدريب، علماً أنني بدأت من ثقافة تلفزيونية، ولكن بعدما تزوجت، قصدت سيدني ودرست الإخراج والنقد السينمائي. كيف تفسرين انفتاح الأسواق الغربية على فيلم «وجدة» الذي بيع في الأسواق الأوروبية وأميركا الشمالية في سابقة أثارت علامات استفهام؟ - مجموعة عوامل ساعدتنا في بيع الفيلم في الأسواق الغربية، فأولاً هناك عطش لمعرفة المجتمع السعودي من الداخل. كما أن الموزع الأجنبي يبحث عن فيلم ممتع لجمهوره، أي أنه لا يريد شراء فيلم من السعودية، فقط لأنه من السعودية، بل يسعى إلى الربح. وبما أن «وجدة» مشغول بطريقة صحيحة، انصبّت أعينهم عليه منذ عرضه الأول في مهرجان برلين. كل هذا من دون أن ننسى أهمية الإنتاج المشترك. فمن الصعب جداً أن يصنع أحدهم فيلماً من الشرق الأوسط فحسب ويتوقع أن يصل إلى العالمية.