يتوافد رؤساء الدول والحكومات الى الأممالمتحدة هذا الأسبوع بعضهم مثقل بالتوقعات وبعضهم بالإحباط وآخرون أقل حماسة للتعرف على الرئيس الأميركي باراك أوباما بعدما تضاءل وهجه العالمي نتيجة معارك داخلية فُتحت عليه وفتحها على نفسه فأثقلته. انحسار الاستفادة من زخم الفرصة التي أتاحها وصول باراك حسين أوباما الى البيت الأبيض وسط دهشة عالمية ومحلية أعاد الى الواجهة المخاوف من ازدياد التوتر والتطرف والمواجهة والممانعة ليس فقط على الساحة الدولية وإنما أيضاً داخل الساحة الأميركية. فالانقسام الأميركي مُرعب لأنه عنيف وأيديولوجي، وانعزالي واعتباطي أحياناً يفتقد آفاق الوعي السياسي للخيارات التي تُسوَّق، ومدروس أحياناً ببالغ الكراهية والحقد والعزم على التخريب، ومسيّر حيناً آخر بالخوف والجهل مجتمعين. هذا الانقسام يشكّل مؤونة لقيادات الدول التي تريد الاستخفاف بالهيبة الأميركية واستغلال إقبال الرئيس الأميركي على التحاور حتى عندما يبلغه محاوره انه يرفض طرح الموضوع الأساسي على طاولة الحوار، كما تفعل القيادة الإيرانية فيما يتعلق بالمسألة النووية. انه أيضاً عنصر تشجيع على التمادي في انتهاك القانون الدولي وارتكاب «جرائم حرب وربما جرائم ضد الإنسانية» كما فعلت إسرائيل وحركة «حماس»، بحسب تقرير البعثة الدولية لتقصي الحقائق حول حرب غزة. ولأن الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتانياهو لها، كالأخطبوط، ذراع متوغلة في الساحة الأميركية، فهي تعامل الرئيس الأميركي بكثير من الازدراء رافضة التوقف عن انتهاك القانون الدولي بإصرارها على المضي في الاستيطان. السودان يستفيد أيضاً من الانقسام الأميركي والدولي لترجيح عامل الاستقرار والمصالح على عامل العدالة وللاعتقاد ان المحكمة الجنائية الدولية ستمضغ العدالة وتبصقها اضطراراً. سورية اعتمدت اسلوباً جديداً في تعاطيها مع المحكمة الدولية لمحاكمة الضالعين في اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري ورفاقه. فقد توجهت الى الأمين العام للامم المتحدة ورئيس مجلس الأمن طالبة التحقيق في «تجاوزات» مزعومة للرئيس السابق للجنة التحقيق الدولية، القاضي الألماني ديتليف ميليس، مستندة الى تصريحات اللواء جميل السيد. وتهدف دمشق الى الضغط على المحكمة لتخويف المدعي العام دانيال بلمار متسلحة بإصرار إدارة أوباما على خطب ودها ضمن سياسة التحاور والانفتاح. النقاش الأميركي الذي يمتد حول جدوى «حرب أوباما» في أفغانستان ما زال يجري داخل الدائرة الأميركية، انما العالم يصغي. فما سيفرزه القرار الأميركي نحو أفغانستان يهم بقية العالم لأن المعركة الأميركية ضد الإرهاب و «القاعدة» و»طالبان» لها أبعاد عالمية بالنسبة الى أفغانستان، والحوار مع ايران التي لا تريد عودة «طالبان» الى الحكم في جوارها، واستعادة التنظيمات المتطرفة الثقة بنفسها لشن عمليات إرهابية خارج الولاياتالمتحدة وداخلها. الشعب الأميركي منقسم. انما الرسالة التي ترافق باراك أوباما وهو يتوجه الى الأممالمتحدة هي ان هناك توجهاً انعزالياً مفاده ان الأميركيين لا يريدون الانخراط لا في حروب ولا في بناء دول ولا حتى في مواجهة مع الإرهاب، طالما أنه بعيد من المدن الأميركية. في المقابل، هناك من الأميركيين من يرى أن الانخراط في الحوار يطعن الهيبة الأميركية ويقدم تنازلات للتطرف والإملاء وحتى الإرهاب. وهؤلاء يلومون أوباما على سياساته نحو إيران وسورية سيما بعدما أتى الرد الإيراني على مطالب الدول الست صفعة برفض طهران التحدث عن الملف النووي، وبعدما أدارت إدارة أوباما خدها الآخر متقبلة الصفعة ومصرة على الحوار. بموقفها هذا، انقذت ادارة أوباما الحكومة الإيرانية من الضغوط الدولية أثناء الجمعية العامة الأسبوع المقبل والتي سيحضرها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد متهكماً على من راهن على نجاح الانتفاضة الإيرانية الشعبية ضده في أعقاب الانتخابات. فتوقيت محادثات ال 5+1 مع ايران في اول تشرين الأول (أكتوبر) هو بمثابة درع يحمي الحكومة الإيرانية من المحاسبة والضغوط ويؤمن لها شراء الوقت نزولاً عند رغباتها وطبقاً لمخططاتها. فهي ليست في عجلة من أمرها سيما أن لا أحد يحاسبها على ما تفعله في العراق أو فلسطين أو لبنان. المحاسبة الأميركية لباراك أوباما هي التي تلقى الاهتمام والاستغراب في كثير من العالم إنما هناك أيضاً من يحمّل أوباما مسؤولية عدم إدراك معنى القيادة، داخل الحكم والسلطة. فهو بادر الى فتح معارك ليس في حاجة اليها، كما فعل مع أهالي طلاب المدارس أو مع المصارف ووول ستريت. وهو ساهم في تأجيج نقاش «اللون» و»العنصرية» ليس لأنه بادر الى هذا الانحطاط في النقاش وإنما لأنه لم يسرع الى تحييد هذه المسائل كما يجب. فبعض الأميركيين الغاضبين من برامج أوباما في ما يتعلق بالتأمين الصحي مثلاً يتحدون طروحاته أساساً لأنها «يسارية» أو خوفاً من دفع البلاد الى نظام «اشتراكي»، ومهما كان هذا الخوف في غير محله، فالنقاش فيه ليس بالضرورة هجوماً على الرئيس بسبب لون بشرته كما يدعي بعض أقطاب الحزب الديموقراطي. بالطبع هناك عنصريون متطرفون مخيفون لأنهم ذوو إيديولوجية عنيفة، وهم أيضاً مسلحون. وبالطبع يجب عدم السماح لهم باستراق أميركا لتحويلها الى دولة عنصرية. انما السقوط في الانقسام المرير والملوّن والإيديولوجي والمسلح خطير، ويجب تفاديه. وباراك أوباما في حاجة ليكون في موقع القيادة في هذا المسعى ليس فقط لأنه ضروري محلياً وإنما أيضاً لأن القيادة الأميركية ستصاب عالمياً بنكسة خطيرة إذا استمر مثل هذا الانقسام والنزاع. القيادة الإسرائيلية التي تُحسن قراءة السياسة الأميركية وتتقن استغلال الفرص أسرعت الى استغلال الوهن والبلبلة والأخطاء وانعدام الخبرة وعدم حسن الأداء داخل إدارة أوباما. فالإسرائيليون، شأنهم شأن الإيرانيين، يتقنون فن التملص والتربص الى حين زوال الزخم وتضاؤل الفرص ولا تعود هناك قدرة أو إرادة للضغط والفرض. أوباما انتظر طويلاً، وفتح جبهات عدة، وكان حظه سيئاً إذ ان مبعوثه الخاص للشرق الأوسط، السناتور جورج ميتشل، ارتكب أخطاء متتالية وأثبت عدم جدارته في تنفيذ المهمة الموكلة اليه. إعادة إحياء الزخم ليست سهلة، والخوف هو من حلقة مفرغة واستمرار الوضع الراهن تحت ستار «عملية» و «تدريجية» وأفكار أو مبادئ عائمة. جورج ميتشل ارتكب الخطأ الأكبر عندما لم ينطلق من تعريف أهداف المفاوضات والحل النهائي وعندما قلّص المفاوضات الى معادلة تجميد الاستيطان الإسرائيلي غير الشرعي مقابل التطبيع العربي مع إسرائيل. عندما يتحدث باراك أوباما أمام الجمعية العامة الأسبوع المقبل، يجب أن يكون لديه أكثر من مجرد إعلان استئناف مفاوضات عائمة – هذا إذا نجح في عقد اللقاء الثلاثي بينه وبين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بعدما فشلت الجهود الأميركية في إقناع نتانياهو بتجميد الاستيطان. فالمشكلة الآن هي مشكلة أميركية. لكن الإحراج فلسطيني نظراً لإصرار أوباما على عقد اللقاء الثلاثي. ما يحتاجه الرئيس الفلسطيني هو أن يأتي الى نيويورك بآلية لطرح المواقف الفلسطينية بمبادرة تستبق التملص والتربص الإسرائيلي وبما لا يجعل ابو مازن منصاعاً الى اجتماع «تشريع» الاستيطان. فهو تحدث الى السفراء العرب في واشنطن عن أفكار تدور في فلك ترسيم حدود اسرائيل والدولة الفلسطينية، ثم التفاوض على قضايا القدس واللاجئين والأمن. وربما يأتي بطرح متكامل يقفز على الاستيطان كمشكلة أمام المفاوضات من دون أن يثبت احتفاظ إسرائيل بكل المستوطنات التي تريدها. فقد سبق وجرى حديث حول مقايضة أراضٍ بين إسرائيل وفلسطين تسمح بأقرب ما يمكن الى حدود 1967 وبتواصل بين قطاع غزة مع الضفة الغربية. كما سبق وبرزت أفكار حول حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الى فلسطين شرط أن تكون عاصمتها القدسالشرقية. ومن الأهمية البالغة أن يؤكد أوباما امام الجمعية العامة الموقف الذي أعلنه في خطاب القاهرة حول لا شرعية الاستيطان. ومن الضروري أن يتحدث عن مفهومه لشكل الحل النهائي وترسيم الحدود بما لا يحكم مسبقاً على مستقبل القدس الى حين انتهاء المفاوضات حولها. ومن الأهمية ان يعلن ان الدور الأميركي سيبقى ناشطاً أثناء المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية وأن ينشّط دور «اللجنة الرباعية» في دعم المفاوضات ودفعها الى الأمام. وليتهيأ الرئيس الأميركي للتعاطي مع تقرير بعثة تقصي الحقائق حول حرب غزة التي ترأسها القاضي ريتشارد غولدستون لأن هذا التقرير سيفرض نفسه على الجمعية العامة وعلى هامشها مهما حاولت الإدارة الأميركية تجاهله ومهما تمنت اسرائيل أن يسرق الرئيس الليبي معمر القذافي الأضواء. ولأن المرشح باراك أوباما احتضن العدالة والتزم بالمحاسبة على جرائم الحرب فهذا التقرير سيحرجه أو سيزيد من حملات اتهامه بالتراجع بعد ان اصبح رئيساً عن تعهداته كمرشح. أو ان هذا التقرير سيشكل ذخيرة له ولمجلس الأمن الدولي لوضع حد لإفلات اسرائيل من المحاسبة. وهنا يبرز دور بان كي مون الذي دعاه غولدستون الى طرح المسألة أمام مجلس الأمن ودعا مجلس الأمن الى التصرف بموجب الفصل السابع من الميثاق وإحالة هذه القضية الى المحكمة الجنائية الدولية – إذا استمرت إسرائيل في رفض السماح بالتحقيق الداخلي، وكذلك «حماس» التي تصرخ مطالبة بالعدالة لكنها ترفض المحاسبة. هذا الخطاب المشترك بين أقطاب التطرف والممانعة، الإسرائيليين والعرب، يراهن على إسقاط العدالة والمحاسبة والمحاكم الدولية عبر ارتهان الاستقرار والديموقراطية وعبر التهديد والتخويف والمزايدات. هكذا يلتقي هؤلاء الأقطاب على ادانة أجزاء من التقارير التي لا تعجبهم أو يقفون ضد محاكم يخشون أن تهدد مصيرهم.