سجلت نهاية تشرين الأول (أكتوبر) الفائت حدثاً استثنائياً، فقد استضافت بيروت لمدة يومين «المؤتمر العام الأول لمسيحيي الشرق»، وضمت قاعته وفوداً كهنوتية في حضور وجوه سياسية وثقافية مدنية جاءت من سورية والأردن وفلسطينوالعراق ومصر. ولم تكن روسيا غائبة بوجهيها الأكليريكي والسياسي. ليس للمؤتمر شعار أو عنوان محدد. لكن الخطب، ونبرة الأصوات التي انطلقت فيه بحرية وشفافية، عبّرت عن تخوف يقارب القلق على مستقبل الطوائف المسيحية التي تشكل أجزاء لا تتجزأ من شعوب المشرق العربي، واجهة الشرق الأوسط. ربما لم يكن ثمة سبب ملح لعقد المؤتمر لولا الأوضاع الرهيبة التي استجدت في سورية منذ أن بدأت الجماعات التكفيرية تقتحم المدن والأحياء والأرياف التي تحتضن طوائف مسيحية متجذرة ومتأصلة في أرض بلاد الشام، من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها. ولعلها مفارقة أن تبادر موسكو في هذه المرحلة إلى إصدار نبأ رسمي يعلن أن وزير خارجيتها تبلغ عريضة تحمل تواقيع خمسين ألف مسيحي سوري من مدينة «معلولا»، ومن «غوطة» دمشق، يطلبون فيها الحصول على الجنسية الروسية. فهل لهذا النبأ الروسي الرسمي هدف سوى أن موسكو تعلن ترحيبها بالعريضة السورية، وأنها لا تمانع بقبول الطلبات، حتى لو ظل الخمسون ألف سوري مسيحي في أماكنهم على أرض وطنهم؟ معنى ذلك أنه سيتحولون مواطنين روس من أصل سوري، ويحق لهم طلب الحماية من دولتهم الجديدة! ربما كان هذا مجرد تفسير، أو تخمين، قد يكون خطأ، أو وهماً فيه شيء من الصواب. ذلك أن الإعلان الرسمي الصادر عن موسكو يفيد بأن روسيا المسكوبية معنية بالمسيحيين العرب الأرثوذكس، لكنه، في الوقت عينه، يثير التساؤل عما إذا كانت دول أوروبا، والولايات المتحدة، ودول أميركا اللاتينية سوف تكون مستعدة لإعلان حماية «رعاياها» في الشرق من الطوائف الكاثوليكية والإنجيلية والسريانية والقبطية والأشورية والكلدانية. في هذا السياق الافتراضي قد تتراءى عبر مخيلات التاريخ طلائع «صليبية» جديدة آتية من الغرب إلى الشرق، ليس على متون أساطيل بحرية أو جوية، إنما بموجب اتفاقات دولية تفكك الكيانات التي نشأت على قاعدة «سايكس – بيكو» لتعيد تركيبها وفق تبدل خرائط «الديموغرافيا» في الشرق الأوسط الجديد. وهذا يعني أن جميع الطوائف اللبنانية على لوحة الشطرنج. مثل هذا التصور يعيد التذكير بأن لبنان كان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نموذجاً للحماية الدولية من بُعد. ففي عام 1864، أي بعد أربع سنوات من الفتنة التي دبرت لجبل لبنان، فرض المجتمع الدولي الأوروبي على السلطنة العثمانية القبول بمجلس وصاية على اللبنانيين. وقد تألف ذلك المجلس من ست دول: فرنسا وبريطانيا وروسيا وإيطاليا والنمسا وبروسيا. لم يكن للوصاية في ذلك الزمن معنى غير أنها حماية للطوائف اللبنانية من بعضها البعض. ولعل روسيا، ودولاً أخرى، تنظر الآن إلى الطوائف في الدول العربية فتراها في حال تشبه حال اللبنانيين في ذلك العصر. لكن اللبنانيين أخذوا نصيبهم بالكامل من الفتن التي دبرت لهم في النصف الثاني من القرن الماضي، ويفترض أنهم تعلموا من كيسهم، ودفعوا أثماناً باهظة من دمائهم وأرزاقهم، ومن حرياتهم وأمانهم ورفاهيتهم. ويفترض أن كل ما أصابهم كافٍ لحمايتهم من خطر الوقوع من جديد في وهم الحماية الخارجية، أو الحماية الذاتية المسلحة، والممولة من الخارج، ومن صناديق طائفية ومذهبية لها مشاريعها وأهدافها. أصاب لبنان من تلك الفتن أكثر وأفظع من كل ما أصاب الدول العربية الأخرى. مع ذلك تغيب إسرائيل في هذه المرحلة عن لائحة مصادر الخطر على المصير العربي بأجمعه لتحل مكانها منظمات تكفيرية متنوعة الرموز والشعارات. هذه المنظمات لها وظيفة محددة هي توفير الحجة لأنظمة الاستبداد كي تفتك في أوطانها وشعوبها، بحيث لا يبقى بعد المعارك الطاحنة سوى الدمار والفراغ، وهذا ما تسجله وتنقله حياً الكاميرات الحاضرة في كل مكان. بعض أحبار الكنائس المشرقية الذين تلاقوا في لبنان خلال الأيام القليلة الماضية عبروا عن حالة القلق التي تعيشها مجتمعاتهم. وإذا كان الواقع لا ينفي هذه الحقيقة فإنه لا يدعو إلى الفرار من وجهها. فمعظم المجتمعات العربية معرض لذلك النمط من التهديد. وقد كان للرئيس اللبناني ميشال سليمان موقف لافت في المؤتمر المسيحي، إذ أشار إلى أن مستقبل المسيحيين في الشرق لا يكون بالتقوقع، ولا بالحماية العسكرية الأجنبية، ولا بتحالف الأقليات، أو بالتماهي مع الأنظمة المتسلطة، إنما بالمشاركة في السياسة والسلطة من دون تحكم الأكثرية الساحقة، وهيمنة العدد، أو الأقلية المستبدة. بدوره أعلن البطريرك الماروني بشارة الراعي أن المصير واحد بين المسيحيين والمسلمين في لبنان، ورفض الخوف والهجرة، في حين رفع المطران الماروني سمير مظلوم الصوت مؤكداً أن المسيحيين في الشرق الأوسط جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسلمين، وأن الإسلام المعتدل مهدد هو أيضاً بالتطرف والتكفير إسوة بالمسيحيين. صرخة القدس وثمة ملاحظة يجب أن تقال، وهي أن فلسطين لم تأخذ حقها المشروع من المؤتمر العام الأول لمسيحيي الشرق، فهناك القدس التي تكاد معالمها المسيحية، كما الإسلامية، تذوب في طوفان الاستيطان والتوسع الإسرائيلي الذي يقترب من حرم مهد السيد المسيح في بيت لحم. وإذا كانت إحصاءات مؤسسة «الدولية للمعلومات» تشير إلى أن نسبة عدد المسيحيين المقيمين في لبنان قد انخفضت بمعدلات مثيرة للقلق فإن نسبة عدد المسيحيين في فلسطين، وخصوصاً في القدس، باتت متدنية إلى حد يثير الحزن. ولا ننسى ما أصاب المسيحيين في العراق، وما يتهدد المسيحيين في مصر، وأخيراً في السودان. كل هذه الوقائع وأسبابها، والأخطار المترتبة عليها، ليست خافية على اللبنانيين، خصوصاً من تنطبق عليهم صفة «المرجعية»، سواء كانوا في السلطة المسؤولة دستورياً، أو كانوا في مواقع القرار حيث القوة للسلاح، و «الأمر لي». هناك رأي عام لبناني مدني قوي، لكنه يفتقد «المرجعية» الموحدة. لذلك فإنه يطلق أصواتاً تضيع في برية الغموض إلى حد اليأس من إمكانية تغيير الواقع السياسي المتحجر في قوالب من النوع المسلح، كما يقال عن قوالب «الباتون». هناك أيضاً «رأي خاص» ديني عاقل يجد نفسه في بعض الحالات رافعاً صوته بالنصح والإرشاد والدعوة إلى التسامح والمودة والحفاظ على وحدة الوطن، فيستعجل المستمعون والمشاهدون أمام شاشة التلفزيون إلى تغيير المحطة». كثر في هذه المرحلة يتلهون بتسجيل المواقف المكررة، فيضيع الوقت أمام الجدار المسلح في وجه التسوية. لكن لا تزال هناك فرصة لتشكيل حكومة تفتح الطريق أمام تقصير المهلة الممددة لمجلس النواب، كي تجري انتخابات تؤدي إلى انتخاب رئيس جمهورية جديد في الموعد الدستوري... وإلا... فلبنان ذاهب إلى المجهول في كل الاتجاهات، وأخطرها الاتجاهات الداخلية المحتقنة على وقع المحيط الإقليمي الممتد من سورية إلى العراق، إلى إيران، إلى تركيا، وكردستان، إلى أفغانستان، والشيشان، ومنها إلى زواريب الدوائر الراقية في باريس، ولندن، وبرلين، وواشنطن، وموسكو. حتى آخر مجموعة الدول التي ما إن تقرأ أو تسمع اسم لبنان حتى تقول عنه كلاماً حسناً، ثم تعلن أسفها. ولعل الأمر المثير للحيرة والذهول في هذه المرحلة من مسيرة لبنان إلى المجهول هو أن دولاً كبرى متخوفة على مصير الوطن الصغير، ويشاركها هذا الخوف الشطر الأكبر من اللبنانيين، لكن العجب هو في الوجوه التي تطل من حين إلى آخر لتبتسم وتطمئن اللبنانيين بأنهم صامدون ومحصنون ومنتصرون. * كاتب لبناني