لم تكد كارثة تسونامي التي اجتاحت الشواطئ الآسيوية قبل تسعة أعوام وخلّفت أكثر من 150 ألف قتيل، غير من شرّدت وأعادت ترسيم خريطة حياته، لم يكد لهذا الحدث المأسوي أن يمر ولو بمضي الأعوام، حتى خرج فيلم «المستحيل» الغربي عام 2012، ليحكي لنا ويذكِّرنا بما وقع للناس، وبما خسروا من خلال قصة إنسانية حقيقية جرى عليها ما جرى. فالعائلة الأوروبية المكوّنة من الزوجين وأبنائهما الثلاثة الصغار، كانوا هناك في إجازة لهم في الفندق القريب من الشاطئ، الذي كان في مواجهة مباشرة مع الطوفان حين اكتسح بمياهه الهادرة ما في طريقه. ولأن القصة وقعت بالفعل وهذه قوة تأثيرها، فلا تستغرب معها المصادفات والتراتيب الإلهية في لمّ شمل العائلة بعد الطوفان، على رغم وجود ثلاثة أطفال جرفهم السيل، ثم بعثرهم. وقد تلخص القصة بأسطر معدودة تقرأها ولا تكاد تتخيلها، ولكن الفيلم، وكان بمستوى ترشيحات «أوسكار» بتقنياته العالية في الإخراج والتمثيل، حتى لتصدق أنها مياه «تسونامي» الفعلية، وأفراد العائلة الفعليين بتعابيرهم الناطقة ومعاناتهم الحية، لا يترك لك خياراً غير متابعته، ولا يفوتك قدر الله في عباده. وهذا التوثيق بهذه الحرفية والمهنية أهم ما يُحفظ لصناعة السينما. وكم من قصص وروايات وتواريخ عالمية وإنسانية كادت لتندثر لولا فضل الفيلم عليها، وهو مغزى المقالة. فالسيول التي اجتاحت جدة وتجتاح المناطق السعودية في كل عام بكل ما تخلِّفه وراءها، ببطولات أصحابها، بتفاصيلها المحزنة والمفرحة والمتناقضة التي لا تصدق أحياناً، كل هذه الحيوات أين هي من أرشيف التوثيق بالصوت والصورة؟ أين الفيلم السعودي الذي يختم بتوقيعه حكاية بطولية لزوجة ضحّت بنفسها لتنقذ زوجها، ثم جرفتها مياه السيول وماتت غرقاً، فعرفناها بامرأة عرعر؟ والغريب أن عدد أفراد الأسرة السعودية هو عدد مثيلتها الأوروبية في «تسونامي تايلاند عام 2004». فعائلتنا المفجوعة مكونة من زوجين وثلاثة أطفال، وكذلك الأوروبية، غير أن الغريب - وبشهادة أخي الغريقة - أن أخته رفضت رفضاً قاطعاً أن يصحبها أطفالها هذه المرة في زيارتها القصيرة لأهلها في طريف، وبسبب إصرارها الخارج عن عادتها كتب الله للأطفال النجاة من الغرق، فهل من الإنصاف أن تمرر هذه الشجاعة، وهذا الحدس قبل الموت في سطرين يواريها التراب كصاحبتها؟ في المواقف الحرجة والظروف الاستثنائية والكوارث الطبيعية، لا يبقى للإنسان غير معدنه الأصلي، يتصرف على أساسه، فلا وقت للمجاملات ولا للتزييف. هنا موعدنا مع الطبيعة البشرية بلا إضافات وحسابات. لذلك، يُكرّم لاحقاً أبطال الفزعات والقرارات الحاسمة غير الأنانية، فمن يُقدم عليها في وقتها يكون جازف بحياته، وقد لا يعيش حتى يرى نتيجة شهامته وتضحيته، كمثل غريقتنا التي تركت دينها في عنق زوج أنقذته من الموت. رحم الله روحها وأعان زوجها على قضاء أمانتها بمراعاة أبنائها، وتكريم ذكراها ما طابت له الدنيا ومد في عمره. فهل وقفت الأقدار عند السيول؟ فماذا عن الكوارث الإنسانية الأخرى؟ ماذا عن تسونامي الربيع العربي بكل روايات أهله؟ بل ماذا عن حرب سورية التي تدمي القلب ونحن مجرد جمهورها من بعيد؟ ماذا عن العراق وأفغانستان؟ ولن تنتهي «ماذا» وحياتنا وبلادنا حبلى بالملاحم الخام التي تنتظر من يفجرها ويظهرها للعالم ولأجيالنا القادمة. بسبب تسريب تشاد هورلي ل «لقطة فيديو» التي نقلت لحظة تقدم المغني كانيي ويست بطلب يد نجمة تلفزيون الواقع كيم كارديشيان، عرفنا أن هورلي شارك في تأسيس «يوتيوب» وباع حقوقها إلى «غوغل» في مقابل 1.65 بليون دولار. فهل استوعبنا الرقم جيداً؟ هذا لأن قيمة الصورة وأهميتها في تصاعد غير محدود. فكم عادوا وزادوا في معارك الحربين العالميتين بأهلها وبيوتهم وذكرياتهم؟ وكم وثق اليهود عن محرقتهم؟ وكم عن انهيار برجي نيويورك في 11 سبتمبر؟ وكم وكم في ما يخصهم. أما ما يخصنا، فتبقى صورة المرأة الخليجية في كاميرتنا تسحّب من شعرها فتمسح السلم ومن أوله بثوبها ودموعها على يد ذكر العائلة، أو تتباهى بثمن شنطتها تمسكها بأظافرها المطلية بماكياجها المبالغ ودلعها اللامقنع. فأين النماذج الأخرى والمشرفة لنسائنا؟ وأين بطولات الرجال غير «الطقاق» واللهاث خلف الأموال والنساء؟ أين الفيلم الخليجي أصلاً؟ وأين الفيلم العربي الذي ينافس في المهرجانات العالمية ودور السينما غير العربية؟ أين رسائلنا المصورة والمؤثرة في الرأي العام الدولي وتخطيط السياسات؟ ولا أقول إلا إننا ضيعنا حقوقنا بسوء إدارة تسويقها، وضيعنا أيامنا بفقر السيناريو والرؤيا لحكاياتها، وضيعنا أقوال كبارنا وحكمائنا، لأن أفلامنا الغائبة لم تحفظها لأبنائنا. وعلى رغم كل شيء، وكما عبارة فيفيان لي أو سكارليت أوهارا في فيلم ذهب مع الريح: «ومع كل هذا، غداً هو يوم آخر». [email protected]