«لنحتفل بالسينما»... دعوة يُطلقها مهرجان ابو ظبي السينمائي الذي افتتح دورته السابعة في العاصمة الإماراتية أمس ويستمر حتى الثاني من الشهر المقبل، واعداً جمهوره بكثير من الضوضاء والصخب والنجوم... ولكن ايضاً بأفلام تعكس هموم العالم وتفتح الباب واسعاً على آفاق لا متناهية. عدسات الكاميرات وهيصات المعجبين على موعد طوال عشرة أيام مع نجوم السجادة الحمراء المزروعة في رواق «قصر الإمارات»... وحمى التنافس بين النجمات لن تخمد على لقب صاحبة أجمل فستان وأهم تسريحة وأبرز إطلالة. لكنّ الضوضاء في أبو ظبي لا تحجب الشعار الذي اتخذه المهرجان لنفسه منذ 5 سنوات تقريباً: «السينما أولاً». أو، هذا على الأقل، ما بدأ يلاحظه السينيفيليون الذين باتوا يجدون في هذا المهرجان ضالتهم بين المهرجانات العربية الأخرى بعد التخبط الذي عاشه خلال سنواته الأولى، وتغيّر إدارته لأكثر من مرة. وإذا كان كثيرون فشلوا في رهانهم على احتمال إخفاق الدورة الماضية، خصوصاً ان أشواكاً كثيرة حاصرتها في ظل حديث قيل يومها عن إمكان إلغاء المهرجان، فإن طريق الدورة السابعة لم تكن مفروشة بالورود إطلاقاً... وإن أتى التحدي هذه المرة، من الإمارة الشقيقة: دبي. لماذا دبي؟ الإجابة لن تكون عصيّة على المهتمين بالمهرجانات العربية، خصوصاً أن الجميع يترقب ما سيقدمه مهرجان دبي خلال هذا الموسم بعدما عدّ العدّة للاحتفاء بعيده العاشر ب «زخم» و«شراسة» كبيرين... ليكون الاحتفال على مستوى المناسبة. من هنا كان لافتاً، وسط هذه الأجواء التنافسية، استقطاب أبو ظبي سلّة من أبرز الأفلام الأجنبية والعربية، بعضها يُعرض للمرة الأولى وبعضها الآخر سبقه صيته بعدما عرض في المهرجانات الكبرى: فمن «كان» يقدم المهرجان أفلاماً مثل «لمسة الخطيئة» لجيا جيانكي و«الولد سر أبيه» لهيروكازو كوري إيدا، و«الصورة الناقصة» لريتي بان. ومن برلين يتيح المهرجان لجمهوره فرصة متابعة الأفلام الفائزة في المهرجان الألماني مثل «فصل من حياة جامع خردة» لدنيس تانوفيتش و«معضلة ابن» للمخرجة الرومانية كالين بيتر نيتزا و«دروس في التناغم» للكازاخستاني أمير بايغزين. كما سيتعرف الجمهور الإماراتي وجاليات المدينة الى فيلم «طوق غرا المقدس» (للإيطالي جان فرانكو روزي) وهو الفيلم الوثائقي الذي شكّل عرضه وفوزه سابقة في مهرجان «البندقية» بمشاركته في المسابقة (للمرة الأولى يفتح الباب امام فيلم وثائقي)، وانتزاعه جائزة الأسد الذهبي... من دون ان تغيب عن البرنامج مروحة من الأفلام التي عرضت في تورونتو. هدف في المرمى أكثر من 166 فيلماً موزعاً على 51 دولة سيوفّرها المهرجان لجمهوره من خلال أقسامه المتنوعة التي تتوزع بين 6 مسابقات (مسابقة الأفلام الروائية الطويلة ومسابقة آفاق جديدة ومسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة ومسابقة عالمنا ومسابقة أفلام الإمارات ومسابقة الأفلام القصيرة). لكنّ الأهم من هذا كله، تبقى الأفلام العربية التي تمكن المهرجان من الاستحواذ عليها. وفي هذا الصدد، يبدو أن مهرجان أبو ظبي، سجّل هدفاً حاسماً في مرمى المنافسين، بما انه حقق رقماً هو الأعلى في تاريخه، كما ان اللائحة تضم أسماء بارزة في السينما العربية وأفلاماً اختيرت للمشاركة في مهرجانات دولية. ولعل نظرة سريعة الى برنامج العروض من شأنها ان تدحض تلك التوقعات التي تنبأت بفشل مهرجان أبو ظبي أمام «زحف» مهرجان دبي: 13 فيلماً عربياً موزعة على فروع المسابقة، منها 4 في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة («السطوح» للمخرج الجزائري مرزاق علواش الذي شارك في «البندقية» و«فرش وغطا» للمخرج المصري أحمد عبدالله الذي تابعه جمهور تورونتو، و«بلادي الحلوة... بلادي الحارة» للمخرج الكردي هينر سليم الذي حطّ أولاً في «كان» و«تحت رمال بابل» للمخرج محمد الدراجي في عرضه العالمي الأول)، و4 أفلام في مسابقة «آفاق جديدة» («بستاردو» للمخرج التونسي نجيب بلقاضي و«زرافاضة» للمخرج الفلسطيني راني مصالحة و«قبل سقوط الثلج» للمخرج الكردي هشام زمان و«فيللا 69» للمخرجة المصرية أيتن عامر) ومثلها في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة («بلح تعلق تحت قلعة حلب» للمخرج اللبناني محمد سويد و«حمل البروطة» للمخرج التونسي حمزة عوني و«القيادة في القاهرة» للمخرج المصري شريف القشطة و«همس المدن» للمخرج العراقي قاسم عيد). ويُضاف الى الأفلام السابقة الفيلم الإماراتي «جن» (من إنتاج «إيميج نايشين» وإخراج توبي هوبر) المشارك في عروض السينما العالمية. أفلام تشي سمعتها بالجهود الكبيرة التي يسخّرها مدير البرنامج العربي في المهرجان انتشال التميمي لاستقطاب أبرز ما تقدمه السينما العربية... لكنّ اهتمام أبو ظبي بالسينما العربية لا ينحصر بجعل المدينة منصة لها فحسب، بل يصل الى الدعم المادي، سواء من خلال قيمة الجوائز الكبيرة الممنوحة في المهرجان (50 ألف دولار لأفضل فيلم من العالم العربي ومثلها لأفضل مخرج من العالم العربي)، أو - وهذا هو الأهم - من خلال صندوق «سند» لدعم الإنتاج السينمائي في العالم العربي (تقدم منحاً بقيمة نصف مليون دولار سنوياً). فبعدما طُرحت علامات استفهام كثيرة العام الماضي في ما يتعلق بمصير هذا الصندوق الذي أطلقته «هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث» عام 2010، مع انتقال إدارة المهرجان من الهيئة إلى المنطقة الإعلامية الحرة «تو فور 54»، جاء الإعلان عن عودته ليُريح السينمائيين العرب الذين يقفون غالباً أمام عائق التمويل. وواضح أن مدير مهرجان أبو ظبي السينمائي علي الجابري يدرك جيداً أهمية صناديق الدعم مثل «سند» و«آفاق» و«إنجاز» ومعهد الدوحة للأفلام في تطوير الصناعة السينمائية وتنميتها... من هنا جاء إنعاش «سند» ليُضيف الى رصيده هو الذي يراهن على هذه الدورة كثيراً، خصوصاً أنه لم يواجه مشكلة ضغط الوقت بخلاف الدورة الماضية التي عُيّن فيها على غفلة قبل أشهر قليلة من الافتتاح. بين الجديد والكلاسيكي ولا يكتفي مهرجان أبو ظبي ببرامجه المعهودة، بل يسعى في كل عام الى استحداث الجديد، والأبرز في هذه الدورة، جائزة حماية الطفل التي تمنح 70 ألف دولار لأفضل فيلم و30 ألف دولار لأفضل سيناريو. وهي جائزة، كما يقول كاتالوغ المهرجان، «استحدثت بالشراكة مع مركز حماية الطفل في وزارة الداخلية بهدف لفت الانتباه الى الأفلام التي ترفع الوعي بوضع الأطفال ضحايا سوء المعاملة أو الإهمال وتعزيز تدابير الوقاية في هذا المجال». وبعد برنامج «نجيب محفوظ والسينما» واحتفالية 50 عاماً من السينما الجزائرية، في الدورتين الفائتتين، يواصل المهرجان هذا العام تسليط الضوء على تاريخ السينما العربية من خلال «مختارات من الأعمال الروائية الأولى لمخرجين عرب»، وهي: «أحلام المدينة» لمحمد ملص» و«بيروت الغربية» لزياد الدويري و«الرحلة الكبرى» لإسماعيل فروخي و«الصعاليك» لداوود عبد السيد و«صمت القصور» لمفيدة التلاتلي و«عرق البلح» لرضوان الكاشف و«عصفور السطح» لفريد بو غدير وعمر قتلته الرجولة» لمرزاق علواش و«غير صالح للعرض» لعدي رشيد. ولا تغيب السينما العالمية مع برنامج «شذرات من الزمن: أيقونات السينما الكلاسيكية» التي تقدم 6 أفلام كلاسيكية مرمّمة، هي: «أطلب الرمز ميم للقتل» لألفريد هيتشكوك و«إفطار في تيفاني» لبلايك إدواردز، و«حدث ذات مرة في الغرب» لسيرجيو ليوني، و«الحذاء الأحمر» لمايكل باول وإمريك بريسبورغر، و«لص بغداد» لمايكل باول وتيم ويلن ولودفيغ بيرغر و«مظلات شيربور» لجاك ديمي... من دون أن ننسى الاحتفال بالسينما الهندية الذي يعرض أفلاماً حازت الثناء خلال المئوية الأولى لانطلاقها. واضح أن مهرجان أبو ظبي لا يكتفي بجمهور واحد، بل يسعى لاستقطاب أكبر عدد ممكن من المشاهدين من خلال البرامج المنوعة التي يحتضنها وأيضاً من خلال النجوم الذين يتوافدون إليه. واللائحة هذا العام تطول من الممثل الأميركي فوريست ويتاكر الى نجوم عرب مثل لبلبة وهند صبري وميرفت أمين وهيام عباس وأحمد عز وكندة علوش وعابد فهد وإياد نصار ونسرين طافش ومنال خضر... ويبقى الامتحان الأبرز كما في كل عام في كيفية الخروج بنجاح من تحدي الصالات الفارغة، فما الجدوى من استقدام أنجح الأفلام وأحدثها إن لم يكن هناك من يشاهدها؟