إن كان مسمار جحا أخذ شهرة واسعة النطاق في الحكايا الشعبية المتداولة، رغم السخرية التي تحملها قصته، إلا أن هذا المسمار موجود على جدران منازل الأحسائيين والغرض منه حمل «السفرة» المستديرة المصنوعة من جريد النخل (الخوص)، والتي كانت ولا تزال تمثل ما تمثله الآن طاولة الطعام، إلا أن الأحسائيين يجلسون حولها من وقت لآخر يتناولون الأطباق الشعبية الموسمية. ويمتلك عادل الصلبوخ منزلاً أنيقاً مبنياً على الطراز الحديث، إلا أن «الإتيكيت» ينكسر أمام الموروث الشعبي، فيُنحِّي طاولة الطعام الأنيقة بمقاعدها، أمام الحنين إلى التراث الذي تحتضنه السفرة الشعبية، يقول: «مهما حاول الإنسان أن يبتعد عن الماضي ويتطلع للحاضر والمستقبل بعين المتناسي إلا أنه لابد أن يعود للوراء». ويوضح «لدي غرفة طعام أنيقة تحوي طاولة كبيرة مستطيلة الشكل، لكنني حريص على تناول الطعام من فترة لأخرى على الأرض حول السفرة المستديرة، فلها شعور مختلف، وتجعلنا في بعض الأحيان نهيم بالذكريات القديمة كيف كنا نتزاحم حولها، وكيف كنا ونحن صغار ننتظر الكبار حتى ينتهوا فنهجم على بقايا الطعام، وكيف كنا نتسابق لتنظيفها وتعليقها في مكانها على الجدار». لا تصنع مائدة الطعام الشعبية هذه بالآلات، بل لا تتدخل في صنعها سوى أيدي النساء اللاتي يجتمعن في «براحة» (ساحة المنزل) أحد المنازل ، ليشربن شاي الضحى، ويتناقلن الحكايا والقصص، وهن يسفون الخوص (حياكته)، بطريقة سريعة ومجهدة، لتنتهي العملية بعد أيام، ويبدو الشكل البدائي يشبه الثعبان الطويل. تقول بدرية حمد (حرفية) «في الماضي كان من علامات الزوجة الجيدة معرفتها بسف الخوص إلى جانب معرفتها بالطبخ والتنظيف والجمال، فكانت ميزة تعطيها تفضيلاً عن غيرها، وكانت حرفة متوارثة تحرص الأمهات على تعليمها للفتيات، وفي السابق كانت مصدر التسلية الوحيد، وتتم على شكل مجموعات وجلسات نسائية». وتبدأ العملية بنشر الخوص (جريد النخل) الذي يجلب من مزارع النخيل المنتشرة بغزارة في الأحساء، ليتعرض لحرارة الشمس لأكثر من ثلاثة أيام، ثم ينقع في ماء مغلي ليضاف إليه الألوان الخاصة التي تزين المنتج، والسفرة الأحسائية تحمل في العادة ثلاثة ألوان رئيسة الأحمر والأخضر والبعض يضيف الأزرق، إلى جانب اللون الأصلي للخوص. ومن أسرار تناول الطعام على السفرة الشعبية، أنه يمنع الإسراف في وضع الكثير من الأطعمة، فهي مصممة لتحوي طبقاً رئيساً إلى جانب أطباق صغيرة مكملة، وشكلها الدائري يجعل الأسرة متقابلة بشكل حميمي أكثر، إلى جانب أنها تطرد الروائح الكريهة وتُبقي على رائحة النخيل التي تنبعث من الخوص الطبيعي. وبعد الانتهاء من لف الجديلة الطويلة المنسوجة بعناية من قبل أيدي السيدات، تبدأ عملية (السل) وهي الخياطة بشكل حلزوني، وتستخدم «المسلة» وهي الإبرة الكبيرة جداً، التي يمرر بها خوص النخيل القوي بين الجديلة التي تتحول للسفرة الدائرية المزخرفة طبيعياً دون تدخل فناني الزخرفة والنحت. ويعد بيع منتجات النخيل ومنها «السف»، دخلاً رئيساً لعائلات، بينما يعده البعض دخلاً إضافياً، إذ تساعد الزوجة زوجها في إعالة الأسرة، فالمرأة تعمل وتنتج وتساهم في دخل الأسرة دون خجل، وتعد الأسواق الأسبوعية المنتشرة في الأحساء مكاناً رئيساً للترويج لهذه المنتجات التي تلاقي إقبالاً كبيراً من قبل المتسوقين. تستقل أم أحمد (في العقد الخامس) وسيدات من قريتها قبل أن تشرق الشمس سيارة الأجرة التي تنقلهن لأحد الأسواق الشعبية، ليقمن بعرض منتجاتهن ومنها السفرة الأحسائية، ليعدن ظهراً وهن سعيدات بمال متواضع «لكن فيه البركة» بحسب قولها، مضيفة «لا تتعدى قيمة السفرة ال50 ريالاً، ولا يمكن أن يعادل المبلغ الجهد المبذول في صناعتها لكن دائماً ما نحمد الله ونعود سعيدات فهو رزق حلال». يشار إلى أن الأحساء دخلت «موسوعة غينيس» للأرقام القياسية، بعد أن صنعت إحدى العائلات أكبر سفرة في العالم، بلغ قطرها ثمانية أمتار، و88 سنتيمتراً وثمانية ملليمترات، وصنعت على مدى 80 يوماً، والعائلة التي صنعتها مكونة من أب وزوجته وستة من أبنائهما، وعرضت أضخم سفرة أمام جبل القارة في الأحساء لتدهش الجمهور الذي صفق لها كثيراً. تعد الأحساء أكبر واحة نخيل عربية، وتذكر دراسات أن عدد النخيل في الأحساء تجاوز 3 ملايين نخلة، ما جعل المنتجات الحرفية اليدوية متصلة بالنخيل ومنها السفرة الشعبية، التي لا تغادر جدران مطابخ الكثير من المنازل الأحسائية، فلا يزال الكثيرون يتناولون وجباتهم على الأرض، إذ لم تؤثر الحياة المدنية في طريقة تناولهم للطعام.