من تراثنا التربوي الجميل الذي تشوه لاحقاً - بفعل فاعل - أن الجدات يقسن وعي الطفل عندما يبدأ بالتفريق بين التمرة والجمرة، عندما يتعلم درسه بعد أن تلسعه الجمرة التي يجذبه ضوءها ولونها الفاتن الذي يشع مع كل نسمة هواء. الجمرة الحميدة، تلك القرمزية الوضاءة، تغفو تحت الرماد تنتظر معك الغد، تتقد كلما أرسلت لها أنفاسك، لا يقبض عليها إلا طموح ذو يقين، ولا ينشد دفأها إلا من يضمها بكفه «حيل.. حيل»، كما يصف البدر جمرة «الغضا»، عشق العرب ومعشوقة «النفود». حضر في ذهني أن من يعملون في مواقع عدة في المملكة بمهرجانات التمور أنهم يوقدون جمراً حميداً، يشيعون به دفأً في أمان أوطانهم الغذائي، يحيون به ثقافتهم ويلثمون بإنجازاتهم تراب «نجدهم»، حيث تنضج معظم التمور، مؤمنين بشموخ نخيلهم، موقنين بتوفيق ربهم، يقيناً يشبه يقين البتول - عليها السلام - تحت تلك النخلة برحمة وحكمة من أوحى لها بهز جذعها. في القصيم والأحساء وبيشة وأي مكان سعى إلى جعل النخلة عنواناً للفرح وميداناً للاقتصاد وهدفاً للأسر والسيدات، لتنتج في كل مكان، تمنيت أن أقف واضعاً يدي على قلبي لأقسم بالذي أُحب على من أَحب أن يواصل حب الأرض. كثير من الأصدقاء والزملاء الكُتاب زاروا مهرجانات التمور وأشادوا بها، وكان نصيبي - ويا لحسن نصيبي - مهرجان عنيزة التاسع للتمور، الذي يحتفل غداً الثلثاء بما أطلق عليه المنظمون «ليلة التمور» التي سيحضرها نائب أمير منطقة القصيم وعشاق النخيل من كل مكان، الليلة التي تتوج جهود العاملين الذين أعرف أن معظمهم متطوعون وغالبهم من بلدية عنيزة، وكلهم شغوفون بما يعملون. لن أمتدح «سكرية» عنيزة على غيرها من التمور، ولن أنحاز ل«الحمراء» على الصفراء، لكنني وبكل التقدير للتنافس الشريف بين المهرجانات أنقل لكم الأرقام الاقتصادية المشرفة والحقائق الاجتماعية المهمة لسلامتنا الفكرية، وأثق في أن كل مهرجان له ميزاته، وسعدت أن البعض تناولها في زاويته أو «تغطيته». مهرجان عنيزة للتمور وفر 500 وظيفة موسمية للرجال والنساء، وقلت وسأظل أقول إن الوظائف الموسمية مفاتيح حرية، وإرهاصات رجال ونساء أعمال حقيقيين، يجوبون مملكتنا الغالية بحثاً عن الفرص الحقيقية المربحة والمشرفة، وهنا استشرفت إدارة المهرجان ذلك وقامت بشراء سيارات نقل على حساب المهرجان، وإعطائها للشباب الطموحين عهدة، وشراء كميات من التمور لهم ليقوموا ببيعها في مناطق المملكة خلال الموسم، ويأخذوا الأرباح كاملة ويعيدوا للمهرجان رأسماله ليقوم بتدويره مجدداً. مسابقة لأجمل «حلا» من التمر شاركت فيها 180 امرأة، أثق في أن بعضهن يوماً ما سيواصلن الإنتاج، وربما يذهب بعضكم إليهن بحثاً عن «فرنشايز»، ومسابقة طبخ شارك بها الرجال مع النساء، وتقدمت عائشة الزمان على «أم محمد المقبل» وعلى «أبو ولاء» لإعطاء المجتمع ملامح عنيزة الثقافية، وعمق انفتاحها الاجتماعي.كل مهرجان يحتفي بإنتاج الأرض الطبيعي والحقيقي يستحق المتابعة والاهتمام والزيارة، من «مانغو» جازان وحمضيات نجران وزيتون الشمال وغيرها، وبالطبع مهرجانات التمور التي ستمطر على المجتمع والاقتصاد «رطباً جنياً». [email protected]