تكمن إحدى أهمّ قواعد السلطات التوتاليتارية في السيطرة على المخيال الرمزي للشعوب في السيطرة على «المجال المرئي» وأدوات إنتاجه. لقد كان على الإمبراطور الفارسي قديماً، لكي يحقق حضوره «الخالد» وسط شعبه، اتباع أسلوب واحد من أسلوبين: الأول، إمّا أن يمنع على الناس نشر أيّ صورة له على أراضيه، سواء على المسكوكات النقدية أو تمثيله بأيّ تمثال أو حتى أيقنته في أي جسم مادي...الخ؛ أو أنْ يَعْمد إلى أسلوب معاكس تماماً، وهو الأسلوب الثاني، في نشر صوره في كل مكان. النتيجة واحدة في كلتا الحالتين: في الحالة الأولى، بغياب أيّ صورة، يكسب الإمبراطور حضوراً ميثياً كثيفاً، فيتحول إلى أيقونة مخيالية غير مرئية أشبه ب «اللغز المقدس»، لغز يصعب حلّه أو تصوره في الأذهان؛ فعلى رغم أنّ الكل ربما يتحدث عن ماهية شكل الإمبراطور، إلا أنّ أياً منهم لا يستطيع إدراك ذلك تماماً: كيفما يتصور أيّ فرد من الناس شكل الإمبراطور وصورته، فالإمبراطور هو حتماً ليس كذلك. هكذا ليتكرس الغموض حول شكل الإمبراطور، وبالتالي يكسب حضوره الخالد. وفعلاً، وكما تروي الأدبيات الفارسية القديمة، لكي يُسمح بالكلام مع الإمبراطور، فلا بد من ضرب حجاب بينه وبين المتكلم لكي لا يستطيع رؤيته. بينما في الحالة الثانية، فإنّ امتلاء الزمان والمكان الفارسيين بصور الزعيم الإمبراطور، يعني انقباضهما واختصارهما به، أي ب «صورة الزعيم الفارسي»، ومرة أخرى، يعني حضوره الخالد. لا يستطيع الإيرانيون اليوم إلا اللجوء إلى الأسلوب الثاني، بسبب ضغط ثقافة الصورة والثقافة المادية والمرئية عموماً، وذلك من خلال تكثيف نشر صور الإمبراطور أو «روح الله» الخميني وخلفه خامنئي في كل مكان. هذا الحال متبع في معظم المناطق الإيرانية لدرجة أنّ الخميني يملأ إيران؛ ويبدو أنه حال أخذ يمتد اليوم إلى بلاد العراق. ماذا يعني ذلك؟ ماذا تريد صورة الخميني من بغداد، وفي مستوى ما، من لبنان؟ من المثير قراءة خبر يفيد أنّ عراكاً بالأيدي نشب داخل البرلمان العراقي بين بعض أعضائه بسبب «صورة الخميني» وخلفه خامنئي وانتشار صورهما داخل شوارع بغداد («صور الخميني وخامنئي «تشعل» البرلمان العراقي»، الحياة، 27 آب/ أغسطس، 2013). هذه سابقة في تاريخ الديموقراطيات البرلمانية العربية: برلمانيون يتلاكمون ويتصافعون من أجل صورة (!). في مصر كنا نشاهد بعضاً من الصور لإسلاميين في البرلمان المصري وهم إما نائمون، أو أنّ أحداً منهم يرفع الأذان تحت قبة البرلمان. لكن في العراق نجد نشاطاً رياضياً متطوراً أدى لتحويل البرلمان العراقي إلى حلبة صراع يُستخدم فيها، فضلاً عن الشتائم، أنماط من الملاكمة والصفعات. وحلبة الصراع هذه هي، من دون أدنى شك، الوجه الأرقى واستمرار للصراع السني- الشيعي المحتدم في المناطق المشرقية (يمكن تفهّم هذا الانفتاح اللامفاجئ على الملاكمة والصفعات والصفعات المضادة بعد عقود من استبداد صدام في «تكبيل لأيديهم». إنها الأيدي الآن التي تم تحريرها، حيث يعبرون من خلالها عن آرائهم، أو بالأحرى انتماءاتهم الطائفية التاريخية التي حجز عليها بعث صدام!). إنّ صورة الخميني الآن واستحقاقاتها هي المحدد الأهم في هذا الصراع. من هنا فإنه من المهم جداً إيلاء الاعتبار لسياق الصورة، أي للسياق الطائفي الذي تُثبت به صورة الخميني حضورها. بالطبع ليست صورة الخميني مجرد تعبير عن الاحتفاء بشكل الخميني، بلحيته أو عمامته الدينية... الخ، إنها تعبير سياسي وديني ثقافي: إنّ صورة الخميني أكثر من مجرد لاعب سياسي داخل معترك سياسي وطائفي يشهده العراق؛ إنها «حضور الخميني» بكل ما تعنيه استحقاقات الحضور من معنى. فلكي تستطيع السلطات الإيرانية استكمال السيطرة على العراق، يجب السيطرة على المجال المرئي لهم وأدوات إنتاجه من خلال تكثيف حضور الخميني. وهنا ربما من المهمّ عدم إغفال ناحيتين: فمن جهة، صورة الخميني هي صورة ثقيلة بمحمولاتها الرمزية الأصولية في سياق المنخرطين في الميثولوجيا البعثية الدينية، وذلك بغية إحياء أصول تسكن ما وراء التاريخ وما وراء الدول. لا يمكن قراءة الصورة في هذه الحال إلا بكونها استمرار للهيمنة على الشارع الشيعي في العالم الإسلامي، وتمثيل هذا الشارع بالخميني وحده. فإذا كانت إيران مختصرة بهيمنة صورة الخميني عليها، يجب أن يكون هذا الحال في العراق، أي تكثيف «حضور إيران» في العراق. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الحضور القوي لصورة الخميني واختصار مخيالية شيعة العراق به وحده. لا نقتنع على الإطلاق بحجة الطرف المعارض، السني، لانتشار صورة الخميني تحت يافطة «سيادة الدولة»؛ ذلك أنّ كل الأطراف العراقية شركاء في تغييب الدولة لصالح اللهاث في انتماءات ما وراء الدولة. لقد أشار مرة أحد فلاسفة ونقاد الفن، وهو بوريس غرويس، أنّ الطريقة الوحيدة في إزالة صورة، إذا ما تملّك الشخص رغبة في محوها، فهي من خلال نصب صورة جديدة مناقضة للأولى: «الصورة في نقد الصورة». هذا الحال يبدو مقنعاً إذا كان طرفا الصراع متكافئين، وكلّ منهما لديه صورته الخاصة، صورته الرمزية التي تختصر اتجاهه الفكري أو الطائفي...الخ، بحيث إذا رفع طرف صورته، ينبري الطرف الآخر لرفع صورته في سبيل محاربة الصورة الأولى. لكن في الحال العراقية لا يبدو أنّ الطرفين في حالة تكافؤ: فبينما يستطيع مناصري شيعة الخميني رفع صورة الأخير، لا يستطيع الخصوم السنة ذلك، نظراً لعدم امتلاكهم «شخصية سنية مركزية إحيائية» يستطيعون الالتفاف حولها. الطرف السني في هذه المعارك، «معارك الصور»، هم الأضعف. لكن لا شك لو كان للطرف المعارض صورتهم لرفعوها، وبخاصة أننا نجد بين الفينة والأخرى رفعاً لصور صدام حسين داخل الشارع السني، على رغم أنّ هذا يتم بخجل نظراً للسلبية المرتبطة بصدام. ومن جهة ثانية، لا يمكن في الشرق الأوسط، وفي المشرق عموماً، فصل المجال السياسي عن المجال الثقافي (دين، أنماط تفكير، عادات، تقاليد...الخ). للأسف، ما زالت ثقافة هذه البلاد لا تستطيع الفصل بين المجالين. فحينما تُنصب صور الخميني في بغداد، يجب أن نعلم أنّ الهدف هو للسيطرة على المجال الثقافي والسياسي. يكفي ملاحظة أنّ مجرد المطالبة بإزالة الصورة من شوارع بغداد، لا الاعتداء عليها، قد ألهبت مناصري الخميني لأن يصفعوا ويلاكموا من وقف ضد الصورة. الملاكمة ليست تعبيراً عن دفاع عن الصورة فقط لأنها «صورة»، بل لأنها الخميني المصحوب بذاكرة: الخميني الذي يشير إلى حضور مقدس سياسي مجبول بالتعبير الطائفي. إنّ صورة الخميني في العراق هي التعبير الأقوى عن قوة حضور إيران فيه. وهذا لا يتم إلا من خلال نافذة غياب «صورة الدولة»، وهو ما كائن اليوم للأسف. هكذا ليغدو العراق لا في حضن إيران فحسب، بل «صورة الخميني»! * كاتب سوري