لا شك في أن طفرة هائلة امتدت إلى روح الكتابة والتنفيذ سواء في الشكل أو في المضمون الدرامي الرمضاني هذا العام. فالانطباع الأغلب يشير بقوة نحو ارتفاع السهم إلى أعلى ويفسح مجالاً لرؤية حشد كمّ كبير من الطاقات التي عملت على تقديم مستوى للمسلسل المصري قد تدفع البعض إلى الخوف على السينما بشكل أو آخر. ففي الوقت الذي ينسحب فيه كثر من الشاشة الكبيرة لأسباب عدة أولها وأهمها صعوبة اعتبار مواضيعهم، في حكم المنتجين، مغايرة لهوى السوق وشهية الجمهور، يهرع عدد من الكُتاب الشباب بأفكار جريئة ومُتخمة إلى التلفزيون. هذا فضلاً عن التواجد التلفزيوني المهم لكثير من نجوم السينما والذي بات واقعاً عادياً بمرور كل عام بحيث لم تعد الانخطافة متوقفة على وجود النجم ذاته وسط السباق الرمضاني على قدر ماهية الموضوع الذي يطل به. عموماً، يمكن التحدث عن أرضية ثابتة لها أساساتها من الجودة والقدرة على الاختلاف عندما يتم ذكر مسلسلات مثل «نيران صديقة» و»موجة حارة». فالأول اثبت جدارة بموضوعه المختلف وطلته المُبهرة حتى ولو كان قد وقع في شرك دوامة الحلقات الثلاثين التي تفرض على طبيعة موضوع مثل هذا، أن يدور حول نفسه وأن يضغط على خيوطه الدرامية لتمتد بما لا يسع قدرتها، بشكل دعا تطور شبكة العلاقات بين الأصدقاء - والتي تُقام عليها حبكة السرد كله - للتحول إلى حدوتة شبه أسطورية يُقحم على هوامشها الأحداث السياسية بشكل فج رغبة من الكاتب محمد أمين راضي في إثراء مادته الدرامية. وهو الدافع ذاته الذي دعاه في حرصه على الإيقاع اللاهث المتوقع منه، أن يبالغ في تعقيد كمّ المواقف التي يتعرض لها الأصدقاء سواء في العلاقة التي تربطهم معاً أو العلاقة التي تربطهم بواقعهم. - فطارق (عمرو يوسف) مثلاً ربطته علاقة بنور (رانيا يوسف) ومن بعدها تزوج أميرة (منة شلبى) وبعدها تزوج نيهال (كندة علوش)، - دون أن يكون ثمة منطق في تلك السهولة التي يتنقل بها كل منهم إلى الآخر في قرب أو بعد وبين علاقات عمل أو زواج أو غيرها، تماماً مثل المغالاة في تعدد المرات التي تعرض كل منهم فيها لمحاولة اغتيال جدية ونجا منها ببساطة. فطارق مثلاً سبق وأن دخل في غيبوبة مرتين.. نور تم إلقاؤها من الشرفة.. نهال تعرضت لحادثة طعن!!. بخلاف أن الفكرة البراقة الأولى التي أطل بها المسلسل في البداية بدت وكأنها ستأخذ المشاهد إلى منطقة الماورائيات فيما يخص الكتاب الذي أهدر كل من الأصدقاء على وريقاته دمهم بغير أي تفسير واضح غير أنها لعبة لم تعرف حتى تفاصيلها وغيبياتها. لكن ما اتضح بعد ذلك هو أن وجود الكتاب ماهو إلا جمرة تحمي وطيس اللهب فهو البوابة التي أدخلك منها الكاتب في مكر شديد إلى عالمه الذي ركن فيه الكتاب جنباً ومضت الحياة العادية ما كشف أن هذا كل ما في جعبة الكاتب الذي رغم كل شيء امتلك قلماً قدر أن يصيغ ما يدعو إلى المتابعة حتى النهاية. ولهذا السبب يُعتبر «نيران صديقة» رغم الأخطاء المتعددة واحداً من المسلسلات الجيدة التي تملك كاريزما تخصها ووجهاً وروحاً جديدين صبغت بها هذا الموسم. وهنا في الوقت الذي لهث الجميع الى تسّيد المسلسل الذي يقدمه شكلاً ومضموناً.. اسماً وفاعلية، في الحدث والمساحة وغيرهما، تألقت منة شلبي مرتضية بالتميز دون التمييز، وأدت دوراً منزهاً عن الإقحامات المعهودة التي تصاحب ظهور نجمة في مثل حجمها بأي عمل تلفزيوني له نفس طابع موضوع «نيران صديقة» الذي يطغى على كل شيء منتهكاً حق البطولة وطقوس النجومية المعهودة. تفاوت متطرف أما «موجة حارة» فكان المسلسل الذي تفاوتت درجة جودته في شكل متطرف من حلقة لأخرى، فبين الانتقال المفاجئ من خط درامي لآخر والتركيز عليه، ومن ثم خلق جديد غيره، كانت العشوائية التي أودت بالسيناريو أحياناً إلى حافة الفراغ وضياع قيمة الموضوع في حد ذاته، ما فرض سؤالاً واجباً: «أي صراع تحديداً من المفترض أن يواجهه المشاهد وأي خط درامي يضعه على مفترق طرقه»؟، مثلاً ذات لحظة تظهر حكاية هنية (ريهام أيمن) والتي بدأ بها المسلسل مستهلاً طلته. ثم في وقت آخر تنزوي هنية تماماً لدرجة يبدو ظهورها من جديد لا طائل منه. ثم يتكدس الحدث بشكل عام ويبدو الإيقاع منضبطاً محكوماً ثم يأتي وقت آخر تتوه فيه الخيوط ويظهر نوع من الخواء الذي لا يولد لديك الشغف الكافي لمعرفة ما سوف يلي. ولأن تلك الحالة ليست صحية لعمل درامي تلفزيوني متعدد الحلقات فإن سمة التشتت طالت المسلسل كله بغض النظر عن تلك الحلقات والمشاهد التي لا غبار عليها والتي بلغت قدراً من الفن يدعو إلى الدهشة من تلك الحالة التي أسقمت البقية الباقية. فلوهلة يبدو كل شيء سخيفاً، بداية من المماطلة في التحدي الذي يجمع سيد العجاتى (أياد نصار) وحمادة غزلان (سيد رجب) ومروراً بتلك القضايا التي تقتحم المسلسل فجأة منتهكة حرمة الأحداث بشكل مباشر، مثل القضية التي ظهرت فيها أميرة العايدي - الزوجة التي خانت زوجها مع الطبيب - والأخرى التي ظهرت فيها ياسمين رئيس - الزوجة المتورطة في قضية تبديل الزوجات -، حدوتة «سعد العجاتى»، وأخيراً وليس آخراً حدوتة الشباب الثوري. لقد بدا أياد نصار ممثلاً متين الخامة ومبدعاً لا محالة لكن بعض الأدوار من عينة سيد العجاتي لا تحتاج فقط إلى قوة الأداء وإنما تحتاج إلى قدر معين من الذكاء في التعامل معها. سيد العجاتي شخصية شديدة التعقيد مريضة بوسواس الشك ما يلقي بها فريسة معاناة نفسية هائلة، شخصيات كُثر تقابلها في حياتك تحمل بين طيات صدورها معاناة مماثلة تتحدث معك بتلقائية إنسان عادي لا تتلوى ملامحه بما يعبأ به مكنونه طوال الوقت مثلما وضع أياد نصار سيد العجاتي داخل الإطار المُنتظر دوماً من ملامح مثقلة بائسة متوترة تحمل لك قدراً ليس هيّناً من الكآبة. لكن الشحنة النفسية السلبية لا ترتبط شرطياً بكل هذه الأعراض النمطية وإنما على غير المتوقع قد يبدو صاحبها طبيعياً أكثر من غيره. وهذا ما قلل من شأن المجهود الكبير الذي بذله نصار ليُلبس شخصية العجاتي ثوباً ارتآه من منظور واحد انقلب ضده على الأغلب، ويمكن القول إن هذه الحالة بعينها تعممت لتطاول المسلسل بأكمله، فباتت المغالاة في قتامة الطرح هي الوخزة التي فضت بكارة طبيعية الحدث وأسبغت عليه طابع العمل الدرامي بدلاً من أن تظهره في تلقائية الحياة اليومية.