كتبتُ قبل أيامٍ في موقعي تدوينة مطوّلة حول التشعّب الشعري لنصوص محمد الماغوط، بين الفلسفة والفنون وألوان السخرية وطيف هو وسط بين المعنى واللامعنى، خصصتُها للتعريف العام بشعره وبنصوصه، إذ صنع الماغوط نصاً مختلفاً ومستقلاً لم ينحَ نحو مجايليه مثل أدونيس أو الخال أو أنسي الحاج، بل كتب نصاً ملأه بالجوع والخوف، على حد تعبير أخيه عيسى الماغوط. من هنا فإنني أستمر بالحديث عن نص الماغوط الساخر الذي اشتهر به، والكثير من الكلمات واللذعات السياسية التي يطلقها تتداول هذه الأيام في شبكات التواصل الاجتماعية. ومن قرأ «سياف الزهور، أو سأخون وطني»، أو مسرحياته الكثيرة التي كتبها وأسست للمسرحية السورية المعاصرة يدرك أن الماغوط يتقلّب بين شعر موجوع، أو سخرية موجعة، فهو متشائم وسوداوي ولا يتحمل لحظات الفرح أو البهجة، هكذا كان الراحل. شكّلت السخرية موضوعاً لدرس الماغوط، وهذا ما جعل «جان دايه»، في كتابه: «محمد الماغوط وصوبيا الحزب القومي»، يخصص ملفاً لقراءة حضور السخرية في مقالات الماغوط المتعلقة بالشأن الاجتماعي أو السياسي وفي المسرحيات والأفلام التي كتبها أيضاً. يكتب دايه: «يمكنني القول إن الماغوط أبدع منهجاً جديداً في السخرية وهو دون سنّ الثلاثين، لأنني لم أجد شبيهاً لمنهجه من بين جميع الساخرين المبدعين في لبنان، وفي بلاد الشام... يظهر الماغوط مبدعاً لمدرسة جديدة في السخرية، كما هي حاله مع إبداعه في الشعر، والغريب أن صاحبنا قد أبدع باكراً ومن غير أن يتسنى له الدرس والاقتباس الكافيين كما هي حال سائر الساخرين الذين يتأثرون في البداية ثم يشقّون طريقهم في ما بعد». ثم يشير في دراسته إلى أن سخرية الماغوط تميّزت باستحضار المقارنات والتوصيفات المفاجئة والطريفة والمستوحاة من الواقع السياسي والاجتماعي الآني. الماغوط في كتاباته الساخرة يفتح مجالاً لروحه المرحة على عكس الشعر الذي قال إنه سيكتبه بشكلٍ حاد مثل أسنان مصابة بالكزاز، وأقسم أن يجعل حروفه طويلة كقرون الوعل. بقيت سخرية الماغوط ضمن الرؤية العميقة للوجود التي انتهجها وخلاصتها أن هذا العالم مصاب بعطب أصلي لا يمكن إصلاحه وبالتالي تكون السخرية من المشاهد اليومية هي الحل الوحيد. ارتبطت علاقاته بأسماء كوميدية عربية شهيرة مثل عادل إمام ودريد لحام الذي سخط الماغوط منه بعد أن جار عليه مادياً، كان يصنع الضحكة في نصّه الساخر كما يكتب النص المؤلم في شعره الحزين. كتب سخريته للمجهول والعدم، وهكذا كان يقذف الحمم من دون هدف، لم يكن يشعر بالحرّية بسبب الجوع والخوف، كتب بأسماء مستعارة مثل «سومر» و«شيبوب». يهتف الماغوط وهو يشعر بالتعب: «يا أرصفة أوروبا الرائعة أيتها الحجارة الممدّدة منذ آلاف السنين تحت المعاطف ورؤوس المظلات أما من وكرٍ صغير لبدويّ من الشرق يحمل تاريخه على ظهره كالحطّاب؟» في حواراته يصرّ الماغوط على عشقه ل«كاف» التشبيه، التي لا يكاد يخلو منها نصه الشعري، انتقلت الصور أو الألوان أو الأشكال التي تبدعها «كاف التشبيه» الشعرية لتصل إلى ساحة النص المسرحي والنص الساخر الصحافي، الذي يتحدث فيها ساخراً حتى من نفسه ومن يومياته وأحداثه، كان حليفاً للقارئ وليس مضاداً أو مناوئاً له. يسهل على قارئ سخرية الماغوط أن يشعر بالألفة مع النص. بقيت سخرية الماغوط ضمن رؤيته الوجودية العامة، والفرق بين شعره ونصوصه الأخرى فرق جزئي ضمن اختلاف المجالات، تحضر الصورة الساخرة حتى في الشعر أحياناً، مثلاً حين كتب: «لقد اشتقتُ للظلم للإرهاب للتعلق بالأغصان بالشاحنات للتمسك بأي شيء ولو بقضبان السجون إنني لستُ ضائعاً فحسب حتى لو هويتُ عن أريكتي في المقهى لن أصل إلى سطح الأرض بآلاف السنين». www.shoqiran.net @shoqiran