أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    ورشة عمل لتسريع إستراتيجية القطاع التعاوني    إن لم تكن معي    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الحياة» تنشر رسائل بخط اليد من «الجاسوس» مصطفى أمين الى توأمه علي (1)
نشر في الحياة يوم 03 - 09 - 2009

تنشر «الحياة» رسائل مصطفى أمين من سجنه المصري الى شقيقه التوأم علي أمين في لبنان، وهي تنشر للمرة الأولى كاشفة وجوهاً من علاقة الصحافي بالسلطة وصراعات أهل المهنة التي تصل أحياناً الى الاستعداء.
في تمام الساعة السادسة من عصر اليوم الثاني من أيار (مايو) 1965 كنت أجلس على المقعد الوحيد المخصص للضيوف أمام الأستاذ مصطفى أمين في مكتبه في دار «أخبار اليوم» في القاهرة. أتذكر ذلك اليوم والساعة بالضبط.
في الغرفة المقابلة كان التوأم علي أمين يقف وراء مكتبه، وكان منهمكاً في ترتيب أوراق وملفات متراكمة أمامه. وكان مكتبا عملاقي الصحافة المصرية منفردين في صالة واحدة واسعة ويفصل بينهما باب واسع مفتوح على الدوام.
كنت قد دخلت مكتب «الأخوين أمين» واتجهت نحو الأستاذ الجالس الى جهة اليمين وقلت: مساء الخير أستاذ مصطفى، فرفع الأستاذ عينيه وخفضهما بسرعة قائلاً: «انا علي، مصطفى أهه، وأشار الى الأستاذ الجالس في الجهة الثانية.
كان الأستاذ مصطفى ينتظرني، وعندما عرّفته بنفسي قدمت اليه رسالة من الأستاذ سعيد فريحة عميد «دار الصياد» اللبنانية.
وفي ما كنت انتظر أن يفرغ مصطفى من قراءة رسالة فريحة رحت أنقّل نظري بين التوأمين. وكان مستحيلاً عليّ أن أميّز بين أحدهما والآخر، لا بالجسد، ولا بالوجه، ولا باللباس، ولا بالصوت.
هما توأمان من فصيلة أشجار «الجميز» بحسب وصفهما. لكن مصطفى كان أكبر من علي سناً، وكان يتقدمه في المجالس، لأنه خرج الى النور قبله بدقيقة أو دقيقتين.
كانا نسخة واحدة طبق الأصل. وكل منهما النسخة الأصل. وإذا افترقا يصعب على أحد أن يعرف من هو «مصطفى» ومن هو «علي». لذلك كان رؤساء الأقسام والمحررون الزملاء في «دار أخبار اليوم» يطلبون أن يضع كل منهما «بادج» على صدره.
عدا الجسد والوجه، كانت تجمع «الأخوين أمين» سمات مشتركة وحركات مشتركة، أبرزها: التمتمة، والهمهمة، والضحكة الخفيفة، والصوت الخافت. لذلك كان من الصعب على غير المصري، وعلى غير المقيم الدائم في مصر، أن يفهم بسرعة، وأن يستوعب بسرعة، كلمات مصطفى وعلي أمين. ويزداد الأمر صعوبة عندما تكون السيجارة والعة في زاوية الفم على طول. ولم تكن السيجارة الدائمة مشكلة لولا أن مصطفى، كما علي، يضحك وهو يتكلم أحياناً فترتجف شفتاه ويهتز بطنه فيسقط رماد السيجارة على الجاكيت أو القميص. ولا أحد منهما يأبه.
لكن هذا «الكاريكاتور» لا يخفف من لمعة الذكاء والظرف وخفة الدم والحزم.
كنت قد وصلت الى القاهرة في الأول من أيار موفداً من «دار الصياد»، حيث كنت مدير التحرير المسؤول في جريدة «الأنوار» لأتابع زيارة الرئيس اللبناني شارل حلو الى القاهرة ثم باريس.
كان شارل حلو في سنته الرئاسية الأولى. ولم يكن قد مضى عليه في الرئاسة سوى سبعة أشهر. وكان برنامج سياسته العربية والدولية مكملاً برنامج الرئيس الأسبق فؤاد شهاب. لذلك كانت مصر المحطة الأولى في جولته العربية التي بدأها من بوابة القاهرة. وعلى هذه البوابة كان يقف جمال عبدالناصر لاستقبال رئيس لبنان.
أما الجولة الأوروبية للرئيس حلو فقد بدأت من بوابة فرنسا وكان على تلك البوابة شارل ديغول يستقبل الرئيس اللبناني الآتي الى باريس عبر القاهرة مباشرة.
لم أكن في الوفد الإعلامي الرسمي في طائرة الرئاسة لسببين: الأول أن الوفد الإعلامي الرسمي كان مؤلفاً فقط من الزميل اميل داغر موفداً من الوكالة الوطنية للإعلام. وكان نقيب الصحافة عفيف الطيبي العضو الشرف في الوفد. ورافق الوفد المصور الرسمي للدولة انطوان دالاتي وجميعهم باتوا من الراحلين.
أما السبب الثاني لعدم وجودي في طائرة الرئاسة فهو أن الرئيس شارل حلو لم يشأ أن يفتح باب الطائرة لمن يرغب من الصحافيين. وعندما سألته بعد الوصول الى باريس «لماذا؟» رفع رأسه وأطلق ضحكته العالية في صالون قصر «ميرينيي» المجارو لقصر «الإيليزيه» قائلاً: لأننا كنا سنحتاج الى ثلاث طائرات.
في القاهرة حضر الرئيس حلو الى جانب الرئيس عبدالناصر الاحتفال الرسمي الشعبي بعيد أول أيار، وفي اليوم الثاني غادر الى باريس، وهبطت طائرته في مطار «نيس» على الريفييرا الفرنسية للاستراحة قبل أن تقلع في اليوم التالي الى باريس.
كصحافي لبناني يزور القاهرة للمرة الأولى كانت رغبتي المهنية والشخصية أن أرى جمال عبدالناصر وأن أصافحه، وقد تحققت رغبتي. وكانت رغبتي الثانية أن اجتمع بثلاثة على الأقل، من كبار صحافيي مصر: محمد حسنين هيكل، ومصطفى أمين وعلي أمين. وقد كان حظي المهني كبيراً في ذلك الموعد عصر الثاني من أيار.
فقد لاحظت وأنا جالس في مكتب «مصطفى» أن توأمه «علي» واقفاً وراء مكتبه منهمكاً بترتيب ملفات وأوراق ثم يضعها في أكياس «نايلون»، وكانت سيجارته في زاوية فمه تملأ عينيه دخاناً وتسقط رمادها على صدره. أما «مصطفى» فكان يطرح علي سؤالاً عن «سعيد فريحة» من دون أن يتطلع اليّ وأنا أجيب. فقد كان يتابع بصمت وحيرة حركة توأمه «علي». ورأيت أن أشكره وأستأذن بالانصراف، فودعته وودعت «علي» وخرجت من «دار أخبار اليوم» لأقف على رصيف الشارع انتظر سيارة «تاكسي» أعود فيها الى الفندق.
طال انتظار «التاكسي» حتى فوجئت بأحد التوأمين (لم أعرف إذا كان مصطفى أو علي) يقف على مسافة قريبة مني على الرصيف منتظراً بدوره سيارة «تاكسي». وكان من الطبيعي أن استغرب، خصوصاً عندما خرج أحد العاملين في «أخبار اليوم» من البوابة ليقول لعلي كلاماً لم أسمعه. لكن «علي» لوّح بيديه رافضاً وظل في مكانه.
كان لدى مصطفى وعلي أمين في ذلك المساء من 2 أيار خبر خاص ثقيل الوطأة عليهما، وكانا يترددان في نشره في «أخبار اليوم» من دون استئذان.
وفي صباح اليوم التالي وجدت وراء باب غرفتي من الداخل في الفندق جريدة «الأهرام» فجذبني خبر بعنوان «علي أمين ينضم الى أسرة الأهرام». وتحت العنوان النص التالي:
«انضم الى أسرة «الأهرام» واحد من جيل الصحافيين الرواد الذين صنعوا التقدم الحديث لمهنة الصحافة وشاركوا بقسط ضخم في تطويرها وهو الأستاذ علي أمين.
«وقد وقّع «الأهرام» أمس عقداً مع علي أمين يصبح بمقتضاه هذا الكاتب الصحافي اللامع مراسلاً خاصاً «للأهرام» في أوروبا مركزه لندن».
أما في جريدة «أخبار اليوم» فقد كتب مصطفى أمين في اليوم التالي في زاوية «من المحرر» عن فراق شقيقه علي بعدما ودعه في مطار القاهرة. وقد بكى مصطفى كثيراً. وكتب في ما بعد «كنت أشعر تلك اللحظة أن هذا وداع بلا لقاء».
ما أن انتشر خبر «انضمام» علي أمين الى «الأهرام» حتى سرت في الأوساط الصحافية والسياسية المصرية موجة تساؤلات راحت تدور في حلقات الاستغراب والذهول. هل خطف محمد حسنين هيكل احدى الركيزتين اللتين قامت عليهما «أخبار اليوم» منذ تأسيسها في مطلع اربعينات القرن العشرين؟.. هل أراد هيكل كسر توأم «العمودين» اللذين ارتفعت فوقهما «أخبار اليوم» فجعلهما مجرد «بلكونة» في مبنى «الأهرام»؟ وهل حرّك هيكل حجر «علي أمين» على لوحة شطرنج الصحافة المؤممة ليضرب حجراً أكبر؟
كان الحجر الأكبر قد سقط على رأس مؤسسة «أخبار اليوم» وعلى رأس «الأهرام» وعلى رؤوس سائر المؤسسات الصحافية المصرية عندما صدر قانون «تنظيم الصحافة»، قبل خمس سنوات (1960) وكان قانون شبه تأميم كلي للصحافة. وقد تبع ذلك القانون في السنة ذاتها قرار باجراء تشكيلات شملت رؤساء مجالس إدارة المؤسسات الصحافية، وجاء القرار الخاص بمجلس إدارة «أخبار اليوم» خلواً من إسمي المؤسسين التوأمين مصطفى وعلي أمين. إذ حل مكانهما السيد «أمين شاكر»، وهو ضابط سابق في مكتب جمال عبدالناصر.
إلا أن التساؤلات المذهلة التي أثارها «انضمام» علي أمين الى «الأهرام» كانت أخف وطأة من اصابع الاتهام التي وجهها مصطفى وعلي أمين مباشرة الى محمد حسنين هيكل على أنه «الكاره والمحرّض» المسؤول عن كسر «عمودي» مؤسسة «أخبار اليوم».
كان محمد حسنين هيكل رئيس مجلس إدارة «الأهرام» ورئيس تحريرها، لكن الأهم هو أنه كان المستشار السياسي والإعلامي الأول للرئيس جمال عبدالناصر. هو صاحب الرأي الغالب، وهو الخبير الاستراتيجي السياسي والسوسيولوجي في شؤون مصر عبر تاريخها الموغل في القدم. ثم أنه كان الى جانب عبدالناصر قبل ثورة «23 يوليو»، وبعدها، وحتى آخر رمق من حياة الزعيم العربي الأكبر منذ مطلع النصف الثاني من القرن العشرين.
وكان هيكل يدين لمصطفى أمين وعلي أمين بفضلهما في بداية انطلاقته في الصحافة المصرية العربية بعدما كان قد بدأ ممارسة المهنة في جريدة «ايجبشن جازيت» التي كانت تصدر بالإنجليزية.
لكن معركة صامتة وقاسية دارت بين «أولاد أمين» وهيكل. وقد كانت في البدء معركة من جانب واحد. من جانب مصطفى أمين على الأقل. وبلغت المعركة ذروتها داخل الصدور حين تم القبض على مصطفى أمين في 20 تموز (يوليو) 1965. وقد دُعي هيكل الى منزل عبدالناصر ليتبلغ منه مباشرة النبأ بعد ساعات من حصوله: «لقد قبضوا الآن على مصطفى أمين متلبساً بالتجسس للأمريكان...». قال الرئيس عبدالناصر لهيكل.
وعلق هيكل، وقد استبد به الذهول: «سيادة الرئيس.. إنني لا أفهم تماماً ما تقوله لي».
- إسمع.. – قال عبدالناصر – إنني أريدك أن تعرف في شكل واضح أن الموضوع كبير وخطير وأنا لا أريدك أن تحتكم فيه الى مشاعرك الشخصية (1)
في ذلك الوقت كان وزير الخارجية المصرية محمود رياض يستدعي السفير الأميركي في القاهرة ليبلغه استياء مصر من ضلوع «المستر بروس تايلور أوديل» الملحق بالسفارة الأميركية في عملية تجسس مع الصحافي مصطفى أمين. وأبلغ الوزير رياض السفير الأميركي أن رجال الأمن قبضوا على «أوديل» مع مصطفى أمين في منزل الأخير في الإسكندرية حيث كان مصطفى أمين يسلم «بروس أوديل» تقريراً مكتوباً.
وقد تبين من الأوراق الثبوتية التي ضبطت أثناء عملية القبض «ان «اوديل» كان قد وجه اسئلة بخط يده الى مصطفى أمين، وأن المعلومات التي قدمها له الأخير كانت تتضمن معلومات سياسية وعسكرية تمس أمن الدولة وسلامتها...».
ثم أذاع مكتب وزير الإرشاد القومي المصري الدكتور عبدالقادر حاتم بياناً جاء فيه: «... كان الصحافي مصطفى امين عميلاً للمخابرات المركزية الأميركية. وكان «بروس تايلور اوديل» الملحق بالسفارة ضابطاً في وكالة المخابرات».
لم يترك محمد حسنين هيكل كلمة واحدة من سيرة علاقة الزمالة والصداقة بينه وبين مصطفى وعلي أمين إلا ونشرها. وفي كل ما كتب وما صرح وما تحدث عن «خيانة» مصطفى أمين كانت تتنازعه حقائق الجرم وواجب الزمالة والمشاعر الشخصية. لكنه كان يتذكر دائماً نصيحة الرئيس عبدالناصر: «لا أريدك ان تحتكم الى مشاعرك الشخصية».
ولعل الأستاذ هيكل أراح ضميره الإنساني والمهني بعدما قابل عبدالناصر في «استراحة المعمورة» في الإسكندرية مساء 8 آب (اغسطس) 1965، أي بعد 19 يوماً من القبض على مصطفى أمين. ففي تلك الليلة تعشى هيكل مع عبدالناصر في «الاستراحة» ثم خرج ليتمشى معه على شاطئ الإسكندرية. وفي نهاية المشوار عاد معه الى مكتبه في «الاستراحة» حيث سلمه الرئيس رسالة من السجين مصطفى أمين موقعة بتاريخ 5 آب (اغسطس) 1965، وتقع في ستين صفحة، وفيها إقرار واعتراف بالذنب، وقد جاء في مستهلها:
«سيادة الرئيس جمال عبدالناصر
«إنني أشعر انني اسألت إليك وأنني لم أعد جديراً بالثقة التي وضعتها فيّ. وقد تصورت دائماً انني قادر ان انتزع معلومات مهمة لبلادي ولقد سبق انني آتيك بأكبر الأسرار وأخطرها مستفيداً من صلاتي العديدة بالأميركيين والمخابرات الأميركية...».
ستون صفحة أفرغ فيها مصطفى أمين معظم ما استطاع ان يقر به من علاقات واتصالات مع المخابرات الأميركية وما تخللها من تحويل أموال بين القاهرة وبيروت ولندن. بعض المبالغ كان يقبضها من «تايلور اوديل» وبعض آخر من حسابه الخاص بغاية نقل أمواله من مصر الى الخارج.
وفي ختام الخطاب – الرسالة من السجين مصطفى امين الى الرئيس عبدالناصر قال مصطفى: «هذا الإقرار والالتماس المكون من ستين صفحة الموقع عليه مني محرر بمعرفتي وقد ضمنته تفاصيل اتصالاتي برجال السفارة الأميركية التي تمت بعد استئذان السلطات وموافقتها. وليست هناك اتصالات أخرى غير ما دوّنت بإقراري هذا.
لكن ملف التحقيق – على ما نشر في قضية مصطفى امين – تضمن من الأدلة الجرمية ما حمل القضاء المصري على الحكم بالسجن المؤبد على مصطفى.
ومن تلك الأدلة ما جاء في رسالة الإقرار والاعتراف بخط يد مصطفى الى الرئيس عبدالناصر.
«تعلمون سيادتكم بأن الأميركيين يستعملون في احاديثهم الحروف الأولى من اسماء الأشخاص والأشياء أو ألقابهم، وقد كان يحدث في بعض الأحيان ان نذكر اسمك بحرف R وهو الحرف الأول من كلمة «ريّس». وأحياناً نقول «الرّيس»، وأحياناً نذكر اسمك بحرف P وهو الحرف الأول من كلمة President، وفي بعض الأحيان ذكرت اسمك بحرف N وهو الحرف الأول من كلمة «ناصر».
قصة الرسائل الخطية
تنقل مصطفى أمين خلال تسع سنوات (1965- 1974) في مختلف سجون القاهرة وضواحيها، بدءاً من «سجن الاستئناف» في ميدان «باب الخلق» في القاهرة الى «السجن الحربي» الى سجن «المخابرات» الى سجن «القناطر» الى «السجن المركزي» الى «سجن القبة» الى سجن «ليمان طره»، وهو الأشهر. وكان السجين لا يغيب فترة طويلة عن السجن الذي يغادره موقتاً حتى يعود إليه. وهكذا كان يعيش أحياناً في سجن «تحت الصفر» من ناحية الخدمة والمعاملة، وأحياناً يجد نفسه في سجن «رقم 1» وما فوق.
وفي تلك السجون كتب مصطفى امين عشرات الرسائل بخط يده الى توأمه علي، وإلى زوجته وابنته، وإلى سعيد فريحة. وكان يبدأ رسائله بكلمة «أخي العزيز» أو «عزيزي» أو «عزيزتي».
وبعد مضي خمس سنوات على سجن مصطفى دعا سعيد فريحة زميله و «توأمه الثاني» في الصحافة علي امين للحضور الى بيروت وقد رحب علي بالدعوة فغادر لندن الى بيروت ملبياً رغبة سعيد فريحة للمساهمة في تطوير جريدة «الأنوار» ومجلة «الصياد» وسائر المجلات الاجتماعية والفنية والإدارية والاقتصادية التي تصدر عن «دار الصياد».
كان جمال عبدالناصر رحل وحل مكانه انور السادات، وانتعشت آمال الذين كانوا يحلمون بالعودة الى ما قبل ثورة «23 يوليو». لكن سعيد فريحة كان ملتزماً مهنياً وسياسياً وعاطفياً خط عبدالناصر. لذلك وجد علي امين بعض «الخطوط الحمر» امامه في «دار الصياد» فصرف اهتمامه الى إصدار «ملحق الأنوار» الأسبوعي بحلة جديدة ما لبثت ان ظهرت عليها بصمات واضحة من أسلوب «اولاد أمين» في صحافة «اخبار اليوم».
كان عصام فريحة الابن البكر لسعيد مسؤولاً عن تحرير «الأنوار» – ولا يزال – وكان متأثراً بأسلوب «أخبار اليوم» في «المانشيت» والعناوين ومقدمات الأخبار وهو كان تدرب في دار «أخبار اليوم» في القاهرة بعد تخرجه من الجامعة. وكنت مدير التحرير المسؤول في «الأنوار» ومساهماً في الملحق الأسبوعي الذي تسلم رئاسة تحريره علي أمين. وكنت مع عدد مع الزملاء في «دار الصياد» ملتزمين اسلوب الصحافة اللبنانية المتمايز مع اسلوب «اخبار اليوم». ومع ذلك توطدت علاقة الزمالة بين علي امين وبيني، فصار يشكو لي همومه الشخصية والصحافية. ولم يكن اسم توأمه مصطفى يفارق ذاكرته وعاطفته. وكان علي يغيب فترة الى لندن ثم يعود الى بيروت، وكانت رسائل توأمه مصطفى من السجن تصله إلى لندن وإلى بيروت، والكثير منها كان يصله من طريق التهريب. وكان علي يطلعني على معاناة توأمه في السجون ويقول لي بحسرة لا تخلو من الأمل «ربما كريم. هانشوف مصطفى يوماً ما. انه بريء مظلوم».
وذات مساء في «دار الصياد» كان علي امين يملأ بهامته الضخمة مقعده خلف مكتبه في الطابق الرابع. وكان يتصفح النسخة الأولى من طبعة «ملحق الأنوار»، وهو دائماً كان في حوار خافت مع نفسه. يتمتم، ويهمهم ناسياً سيجارته في زاوية فمه، وهو الوحيد الذي كان ينافس سعيد فريحة في التدخين، مع فارق بسيط هو ان علي امين كان يترك رماد سيجارته يهر على صدره، فيما كان سعيد فريحة يترك رماد سيجارته يهر على صدره وعلى الطاولة امامه وهو يملي مقالاً على الشاعر يونس الابن.
تطلع علي امين إلي مبتسماً وهو يهمهم وفاجأني بسؤال: «ما رأيك ان تصدر كتاباً عن صحافة مصر وصحافة لبنان»؟
وأذكر أنني قلت له: هذا كتاب كبير يحتاج الى وقت طويل وجهد عظيم. وأنا لست مهيئاً لهذه المهمة. فقال: ما رأيك ان يكون الكتاب عن صحافة «أخبار اليوم» وصحافة «دار الصياد»؟ قلت: هذا ممكن، ولكن بشرط ان تكتب انت الجزء المصري منه.
قال: هل تعلم ما هو الكتاب الصحافي الأهم؟ ولما استفسرت قال: «كتاب يروي قصة سجن مصطفى أمين». فقلت له: مصطفى امين سجين ومحكوم بجرم التجسس على جمال عبدالناصر وعلى مصر. وأنا صحافي مع كمال جنبلاط على خط جمال عبدالناصر. ثم ان سعيد فريحة ومعظم أسرة «دار الصياد» كما تعلم، لا يزالون على خط عبدالناصر. واستدركت قائلاً لعلي أمين: «... فكيف يمكن ان تودّيني في هذه الداهية يا أستاذ علي؟!».
ضحك علي امين واهتز كرشه كثيراً وسقط الكثير من رماد سيجارته على صدره. وفجأة قال لي وهو يمد يده ليفتح درج مكتبه: «استنى». ثم أخرج من الدرج ملفاً ناولني إياه قائلاً:
«هذه مجموعة من رسائل مصطفى موجهة إلي من السجون. اقرأها على مهل. وفكّر. وبعدين نتكلم...».
وجدت في الملف ست رسائل بخط مصطفى امين. ثلاث منها على ورق مسطر. وكل ورقة مكتوبة على الوجه وعلى القفا. وثلاث رسائل أخرى مكتوبة بخط اليد ايضاً، ولكن على ورق «ستانسل». ولما سألت عما اذا كانت هذه الرسائل الثلاث اصلية. عبس علي امين وقال بحدة وهو يأخذ الرسائل من يدي:
«يبني... بص قدامك... هذا خط بحبر قلم، وهذه الرسائل هي النسخة الأصلية وليست نسخة من نوع «فوتوكوبي» بدائية». وأضاف: «اما لماذا هي على ورق «ستانسل» فلأن الورق الذي يمكن تهريبه في داخل السجن فهو ورق «ستانسل».
أعاد علي امين ملف الرسائل إلي فأخذت الملف معي الى مكتبتي الخاصة في منزلي. وفي اليوم التالي جئت الى «دار الصياد» حاملاً الملف ووضعته امام سعيد فريحة وأطلعته على فكرة علي امين، فقال لي انه مطلع على هذه الرسائل. وإذ تحمسّ للفكرة قال لي: «خذ وقتك للتفكير». ثم استدرك: «انها رسائل سجين معذّب له اسبابه وله أعذاره».
وأطرق سعيد فريحة وهو يمج سيجارته صامتاً. لقد كان يحب مصطفى كأخ وزميل، وكان معجباً بصحافة «اولاد امين» وبأسلوبهم في المقابل وفي الخبر. وكانت الثمرات الأولى من مواسم تفاح لبنان تصل الى سجن مصطفى امين قبل ان تصل الى بيت سعيد فريحة. ولم يشفع أحد لمصطفى أمين امام جمال عبدالناصر كما شفع به زميله سعيد.
وبين إطفاء سيجارة وإشعال أخرى نظر إلي عميد «دار الصياد»، متذكراً آخر لقاء له مع جمال عبدالناصر في حضور محمد حسنين هيكل. وروى لي كيف كان ينتشل مزاج عبدالناصر من الهموم ليضعه في جو البساطة والابتسامة. وعندما استغل سعيد هذا الجو مرة ليطرح على عبد الناصر رجاء بإطلاق مصطفى امين استعاد الرئيس وقاره. وقال:
«لا أستطيع ان اقطع وعداً في موعد محدد. لكنني أعد بإطلاق سراحه لما يمشوا اليهود من سينا».
ورفع سعيد فريحة رأسه نحوي، وقال بحسرة: «مشي عبدالناصر أولاً...».
ثم فاجأني سعيد فريحة بأن لديه هو ايضاً رسالتين من مصطفى أمين في سجنه، وقد بحث عنهما ووجدهما. وكانت الرسالتان بخط يد مصطفى، وعلى ورق رقيق. وقال لي: «تستطيع ان تجد فيهما ما يكمل رسائل مصطفى. ولدي الكثير من التفاصيل عن علاقتي مع مطصفى وعلي وما بيننا، نحن الثلاثة من مزاج مشترك وتعاون مهني بين «دار الصياد» ودار «أخبار اليوم».
كانت حرب تشرين الأول (اكتوبر) 1973 قد قلبت صفحات التاريخ العربي الحديث الذي بدأ مع نشوء إسرائيل في العام 1948. وكان عبدالناصر قد رحل تاركاً في أدراج مكتبه المسودة الأولى لخطة حرب تحرير قناة السويس وجزيرة سيناء المحتلة. وكان الفريق أول سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المصرية هو من وضع الخطة الأولى. ولقد رقص العالم العربي على وهج الانتصار في «6 اكتوبر 1973» وشعر المواطن العربي في كل مكان بأن أمته قادرة أن تقهر إسرائيل عندما تتحد جيوشها، على الأقل، لمحاربة عدوها. والبرهان كان في اتحاد جيشي مصر وسورية فقط في ذلك العام.
ولم تجد إسرائيل بعد هزيمتها في حرب أكتوبر مكاناً تنتقم فيه سوى لبنان، فكانت حروبها و «حروب الآخرين» تجرى على ما سمي «الساحة اللبنانية». ومن عام 1975 – عام 1976 لم تسلم مدينة أو منطقة في لبنان من شرارات الحرب ودمارها. وأخذ بيتي الجبلي نصيبه مرتين في تلك الحرب. وفقدت مكتبتي وملفاتي الخاصة، وبينها ملف رسائل مصطفى أمين الى علي أمين.
كان يمكن لقصة هذه الرسائل أن تتحول رواية بعدما عثرت عليها بعد أربع وثلاثين سنة من ضياعها. وكانت مفاجأة مذهلة عندما اكتشفت امرأة تنظف «التتخيتة» في بيتنا الجبلي في أواخر صيف العام الماضي محفظة جلد بسحاب من النوع المحمول في اليد. كانت المحفظة متعفنة من الخارج. وكانت الهدية أن الرسائل في داخلها بين أوراق أخرى. لكنها كانت شبه «مهلهلة»، وقد باخ لون الحبر، وأصبحت سطور من بعض فقراتها صعبة على القراءة إلا ب «ميكروسكوب» غير انها بالإجمال واضحة... وهكذا أخذت طريقها الى «الحياة».
* صحافي لبناني، والنص مقدمة للرسائل التي حفظها صافي من مرحلة زمالته لعلي أمين في مؤسسة «دار الصياد« الصحافية في لبنان..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.