منذ أشهر قارب حازم صاغيّة مقولة «النظام» و«تغييره»، وذلك في مقال له «في تغيير النظام» (الحياة، 1 أيار/مايو 2012)؛ وكان من بين ما تعرّض له هو التفريق بين النظام المجتمعي والثقافي العريض (= سيستيم)، وبين النظام السياسي (= ريجيم)، الذي لا يعدو أن يشكل مستوى من مستويات «السيستيم» العام، من جهة، وبأنّ إسقاط الريجيم هو مجرد «مقدمة» لا بد منها لإسقاط السيستيم، من جهة ثانية. وبغض النظر عما يطلبه الإخوان في مستوى التغيير الذي ينشدونه (وهم يسعون لابتلاع ريجيم الدولة وسيستيمها)، السؤال أين كان إخوان مصر من ذينك المستويين، حتى أصبحت اليوم ألفاظ من قبيل «الفلول» على ألسنتهم يوجهونها إلى كلِّ من يعارضهم؟ من حيث الانتماء إلى السيستيم الثقافي العام والواسع، لا يمكن إنكار أنّ «إخوان مبارك» ومبارك نفسه كانا يشكلان كلاهما جزءاً أساسياً من السيستيم المصري (السيستيم الحاضن، الثقافي والتوتاليتاري العدمي...الخ). فإذا صح بأنّ الإخوان، بوصفهم معارضة، كانوا يشكلون مرآة لنظام مبارك ك«ريجيم» (وهم جزء من هرميته)، فإنهم كذلك كانوا يشكلون، مرآته، بل وشريكه الجوهري ك«سيستيم»، من حيث أنهما ينطلقان في إنتاج وإعادة إنتاج المقولات الثقافية والإيديولوجية التي تعبر عن قاعدة النظيمات المعرفية والثقافية المجتمعيّة نفسها، بغض النظر عن الاختلافات الشكلية السطحية بين الطرفين، هذه القاعدة العريضة السيستيمية التي ما زالت على حالها إلى اليوم، رغم تغير رؤوس الريجيم. يأتي هذا الكلام مع عدم إغفال القول بتواجد تيارات حداثية وعلمانية مهمة داخل السيستيم المصري. إنّ تخبط إخوان مصر في إطلاق تعابير من قبيل «فلول نظام مبارك» لا يشير إلى استخدام هذا التعبير كأحد الأدوات في السيطرة على المجال الدلالي الرمزي والسياسي فحسب، وإنما يشير كذلك إلى حالة الفراغ السياسي في نظيمتهم الإيديولوجية. وربما يشكل هذا أحد الأسباب في عدم تقديم الإسلاميين إلى هذه اللحظة خريطة توضح أين هي حدود «الوصل» وأين هي حدود «الفصل» بين النظام السابق وبين النظام اللاحق، حتى يعلم المنتقدون الخطوط «الحمر» في انتقادهم لهم. يمكن القول، لو شئنا الدقة أكثر، إنّ الإخوان المسلمين الذين يتحكمون بشؤون مصر اليوم هم زبدة نظام مبارك السيستيمي: إنهم «فلول» ذلك السيستيم اللاديموقراطي واللاحداثي. نعم، هم كانوا من بين من عارض مبارك، إلا أنهم هم الإخوان أيضاً الذين يمتحون من ثقافة مبارك وما قبل مبارك. لا بل إنهم أكثر مما يعنيه استحقاق تعبير «فلول مبارك»، وذلك نظراً لكونهم قد صعدوا إلى السلطة، وهم لا يعتبرونها إلا «تركة» الرجل المريض. لكن نقدياً، مبارك ليس سوى وجه من أوجه الحاضنة التاريخية المصرية المريضة التي أصعدته: السيستيم الثقافي المريض. إن كل ما يفعله الإخوان الآن، أنهم يحصدون نتائج انتكاسات ذلك المرض السيستيمي. الإخوان المسلمون، كإسلام سياسي، لديهم «عقدة تأزمية» هائلة، إلى الآن، لما يعنيه اصطلاح «النظام» نفسه، وفي كيفية اكتساب موطئ من الشرعية لا يخرج عن التخشب الإيديولوجي المتحكم بذهنيتهم. يأتي هذا رغم صعودهم وانتقالهم إلى مرحلة وسدة الريجيم. ويبدو أنّ هذه العقدة متأصلة في أدلوجتهم بسبب عدائهم الذهني والتاريخي لمنجزات الغرب والحداثة، والتي يشكل فيها النظام السياسي الحديث أحد تلك المنجزات. وفعلاً، يمكن قراءة أحد أوجه التأزم بالنظر إلى النظام من خلال رفعهم هم وإخوانهم من السلفيين شعاراً متناقضاً مع أسس النظام السياسي الحديث: «الشرعية والشريعة»، الذي لا يعدو، ربما، بكونه سلاحاً سياسياً يُرفع بوجه الخصوم، طالما أنّهم يدعون امتلاك وتمثيل الفضاء الرمزي والمقدس والذي لا يجاريهم فيه الليبراليون والاتجاهات العلمانية المعارضة. من هذه الناحية، لا يبدو أن صورة انتقادات الإخوان المسلمين لمعارضيهم، وبخاصة في مصر ما بعد مبارك، واتهام كل من ينتقدهم، بأنهم من أنصار «النظام السابق»، لا يبدو أنها صورة تختلف «جوهرياً»، عن تلك الصورة المعهودة عن الأنظمة التوتاليتارية العربية في اتهام معارضيها: أنصار الرجعية، الإمبريالية،...الخ. وقل الأمر نفسه، كما حدث وما زال يحدث إلى الآن، في المناخ السياسي التوتاليتاري في حالة «خمينيّة» النظام الإيراني بخصوص: أعداء الثورة، أعداء الإسلام، أنصار الصهيونية...الخ. أي أننا أمام مزيج ثقافي وسياسي متكامل، رغم حفظ الفروق «الشكلية» بين هذه الجهة وتلك. ربما يقال إنه من المبكر الحكم ما إذا كان مرشد الإخوان الحالي، محمد بديع، يلعب دور «الولي الفعلي» الذي يقود من خلف الستار الرئيس مرسي، وبالتالي يُعاد إنتاج خمينية طهران على أراضي مصر (ولافتة «يسقط حكم المرشد» لها من العمق الدلالي ما يكفي)؛ لكن إذا كان من المبكر الحكم بذلك بنحو يقيني، فإنه لا مناص من الاعتراف بأنه إذا استمر مرسي بتطبيق ما كان يُخطط له على مدار أكثر من ثمانين عاماً ونجح بذلك، فإن مصر ستكون على موعد «خمينية جديدة» بطبعة مصرية. لكن هذا لا يعني على الإطلاق أنهم سينجحون بإعادة إنتاج دولة دينية، بل إعادة إنتاج التسلطية التوتاليتارية الخمينية على أراضي مصر. يعود هذا إلى أسباب عديدة، ليس أقلها التقارب الذهني والإيديولوجي، وانتماء الإيديولوجيتين، الخمينية والإخوانية، إلى بارادايمات هرمية متقاربة بالنظر إلى النظام والدولة والمجتمع الذي لا يتعدى وصفه «جماعة مؤمنين» و«جماعات ضد المؤمنين» و«إخوان في الإسلام» وما يعاكس ذلك، أو اللغة التي يستخدمها مناصرو مرسي بكونه «الأب» . إذا أسقطت الاحتجاجات المصرية فزاعة الإخوان التي كان يتكئ عليها نظام مبارك ليخيف الغرب قبل العرب بها، فإن الإخوان، بسلوكهم الابتلاعي الذي نلاحظه، ربما يتحولون أو يحولون أنفسهم لا إلى فزاعة فحسب، بل إلى عقبة ومصدر قلق يهددان عملية التغيير الديموقراطي، وبخاصة في ظل غياب الثقافة الديموقراطية بشكل عام. وحقيقة، إذا كان يسكن داخل «الخميني» في أعماقه «الشاه بهلوي» سيستيمياً بثقافته العدمية والإطلاقية، وبالعكس (لا فرق في الرجال والتسميات في حالة ثقافة هؤلاء)، فإنه داخل «الإخوان» يسكن أكثر من المخلوع «مبارك»، وأيضاً سيستيماً. * كاتب سوري