يدور نقاش ضارٍ في العالم العربيّ حول «النظام»، من دون أن يُعطى بالضرورة التسمية هذه. لكنّ النظام الذي يقصده المساندون له، وكذلك بعض المعارضين، هو ما تعيّنه باللغات الأوروبيّة كلمة «ريجيم»، أي النظام السياسيّ حصراً، وليس مصطلح «سيستيم»، أي النظام المجتمعيّ والثقافيّ الأعرض الذي يُعدّ «الريجيم» مجرّد مستوى من مستوياته. وربّما جاز لنا أن نغامر بتعريف آخر لمعنى الثورة، هو أنّها ذاك الحدث الضخم الذي يغيّر «السيستيم» في آخر المطاف، ولا يكتفي بتغيير «الريجيم». وهنا، وبهذا القياس، تداهمنا حقيقتان كبريان: الأولى، أنّ الكثير من الجهد لا يزال مطلوباً لإسقاط «الريجيم»، دعك من «السيستيم»، ليس في سوريّة فحسب، بل في بلدان أخرى كمصر واليمن حيث لا يزال الصراع قائماً مع «الفلول». والثانية، أنّ تغيير «الريجيم» في العالم العربيّ، حيث يصادر النظام السياسيّ الفضاء كلّه ويسيطر على كلّ ما يقع تحت أنوفنا تقريباً، هو المقدّمة التي لا بدّ منها لتغيير «السيستيم». والمعادلة هذه تنطبق على الثورات العربيّة جميعاً، ولو بقدر ملحوظ من التفاوت، كما تقنعنا، إذا كنّا لا نزال بحاجة إلى حجج، بمدى تعقيد طريق الانتقال من تغيير «الريجيم» إلى تغيير «السيستيم» ومدى طول ذلك وصعوبته. وهنا نقع على أصناف مختلفة من المواقف التي يتفرّع كلّ منها عن ثقافة سياسيّة محدّدة: فهناك مؤيّدو «الريجيم» الذين لا يطرحون على أنفسهم مسألة «السيستيم» أصلاً. وهذه الخانة تعجّ بالانتهازيّين و «السينيكيّين» فيما يخرج أصحابها من مسألة الثورة والتغيير برمّتها. وهناك مؤيّدو تغيير «الريجيم» من دون تغيير «السيستيم»، بحيث يستمرّ نظام يقول بالمقولات نفسها التي سادت في الخمسينات والستينات، وبالقيم ذاتها التي يزعم النظام القائم الولاء لها. وهكذا يُمهَّد، في ظلّ رايات القوميّة الراديكاليّة والممانعة، لإعادة إنتاج هذا «الريجيم» ذاته من بوّابة «السيستيم». وهناك مؤيّدو تغيير «السيستيم» في اتّجاه إسلاميّ من دون كسر الطبيعة الاستبداديّة ل «الريجيم». وهؤلاء الذين نلقاهم في صفوف الإسلاميّين، من دون أن يكونوا كلّ الإسلاميّين، يتحرّكون في دوائر ضيّقة من التنافس لا تفتح على أيّ أفق رحب، ولو أنّ خطابهم السياسيّ مرصّع بالرحابة التاريخيّة الفائضة. وهناك مؤيّدو تغيير «السيستيم» في معزل عن تغيير «الريجيم»، أو قبله، أو من دونه. هكذا توضع حريّة الإبداع وحقوق المرأة وتحرير الفضاء العامّ من الدين قبل شرطها الشارط، أي كسر النظام السياسيّ، فيما يصار عمليّاً إلى خوض معركة «الريجيم» من دون أيّ تأثير في «السيستيم»»، أو بالأحرى، من دون بلوغ سويّة المواجهة معه. والسؤال، في آخر المطاف، وبما يجافي المواقف السابقة، هو: كيف الوصول إلى كسر «الريجيم» والانتقال، من هناك، إلى كسر «السيستيم»؟ أي كيف يمكن احتضان بذور المهمّة الثانية في المهمّة الأولى نفسها... فلا تكون هوادة في المواجهة مع حرّاس الهيكل الزائف، ولا يكون تبرّع بأيّ قداسة أو تجميل لهذا الهيكل المسمّى أسماء كثيرة أخرى؟