كان مشهد العنف والقتل أمام القصر الجمهوري في مصر قبل أسبوع أشبه بحالة «ما قبل الطبيعة» أو حرب «الكل ضد الكل» كما وصفها يوماً عالم السياسة الإنكليزي توماس هوبز. أو أشبه بمشهد القتل السوريالي في الفيلم الأميركي الشهير «ذي باتريوت» الذي اضطر فيه ميل غيبسون للدخول في حرب لم يكن يرغبها ضد الاحتلال الإنكليزي لأراضيه. وكانت الحصيلة ثمانية قتلى ومئات الجرحى. وقع كل هذا بسبب الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس مرسي قبل أسبوعين ومنح نفسه سلطات واسعة لا يمكن لأي جهة مساءلته عليها بما فيها القضاء المصري. «موقعة الاتحادية» هكذا أطلق عليها الإعلام المصري الذي تبارت قنواته ومذيعوها وضيوفها في إطلاق كل الأوصاف السلبية على جماعة «الإخوان المسلمين» فاتهموها تارة بالفاشية وأخرى بالإرهابية وثالثة بالتحريضية... إلخ. ووسط هذه الفوضى الإعلامية كان من الصعب إن لم يكن مستحيلاً البحث عن تحليل منطقي وموضوعي لأحداث «الأربعاء الدامي» وكيف وقعت وما هي دلالاتها سواء بالنسبة لمستقبل مصر أو لصورة جماعة «الإخوان» في الذهن العام للمصريين. وابتداء فإن أهم ما يلفت النظر في أزمة الإعلان الدستوري ليس فقط ما أثاره من توتر وعنف وقتل أدمى قلوب المصريين وأثار القلق والحزن داخل أوساط كثيرين من جيرانهم العرب، وإنما أيضاً رد فعل جماعة «الإخوان» وكيفية تعاطيها مع الأزمة. وهنا يمكن تسجيل بعض الملاحظات الأولية التي تسلط الضوء على الأخطاء التي وقعت فيها جماعة «الإخوان» وسوف يكون لها تأثير مهم في مستقبلها وصورتها لدى الشارع المصري. أولاً: كان قرار الجماعة بإرسال مؤيديها إلى القصر الجمهوري من أجل دعم الرئيس محمد مرسي كارثياً. ورغم كل ما يقال عن محاولات إسقاط مرسي (وهي حتى الآن مجرد اتهامات وعبارات إنشائية) إلا أن قيادات الجماعة تتحمل المسؤولية الأكبر عن أولئك الذين سقطوا بين قتيل وجريح. فقد افتقد القرار أي حكمة أو بصيرة سياسية وكان قراراً أهوج يعكس رعونة سياسية واضحة سواء في التفكير أو التنفيذ. وقد أساء هذا القرار للجماعة وللرئيس مرسي أكثر مما أفادهما. فمن جهة أكد القرار على استمرار الارتباط العضوي بين مرسي وجماعته وهو الذي حاول مراراً أن يقنعنا بانتفاء مثل هذه العلاقة بخاصة بعد توليه الرئاسة. ومن جهة ثانية فقد حلت الجماعة نفسها محل الدولة وحاولت القيام بالوظيفة الأساسية لمؤسسة الحرس الجمهوري ووزارة الداخلية في حماية الرئيس. وحتى بافتراض تقاعس هاتين المؤسستين وأنهما «تتآمران» على الرئيس بحسب ادعاءات بعض قيادات الجماعة وأنصارها (لاحظ أن مرسي أعاد تشكيل قيادة الحرس الجمهوري وهو الذي وافق على اختيار وزير الداخلية رغم اعتراض القوى الثورية عليه) فإنه لا يمكن القبول بأن تمارس الجماعة قدراً من الوصاية على الدولة ومحاولة فرض الأمر الواقع مثلما حدث. ومن جهة ثالثة فقد أعطت الجماعة فرصة ذهبية للإعلام المصري بأن يعيد إنتاج مقولة امتلاك الجماعة لميليشيات مسلحة وأن يصفها البعض بأنها باتت أشبه بعصابات «المافيا». ثانياً: دفع أسلوب تعاطي «الإخوان» مع أزمة الإعلان الدستوري بالبعض إلى طرح تساؤلات جوهرية حول حقيقة الخطاب السياسي للجماعة ومدى صدقيته وفتح مجالاً للتشكيك في الكثير من مواقف الجماعة التي تبنتها طيلة العقود الماضية بخاصة في ما يتعلق بالموقف من العنف والإيمان بقيم الديموقراطية واحترام التعددية السياسية... إلخ. وقد ظننا أن مثل هذه المسائل قد تم حسمها داخل الجماعة قولاً وفعلاً. ولكن يبدو أن ثمة انفصاماً كبيراً قد حدث بين الخطاب والسلوك. وربما يرد البعض على ذلك بالإشارة إلى استفزازات الخصوم ومؤامراتهم لإجهاض «الإخوان»، وهو أمر وإن لم يخلُ من الصحة إلا أنه أيضاً يؤكد ما نقول وليس العكس. بكلمات أخرى لا يمكن القبول بأن تتورط الجماعة في عمليات عنف وإقصاء ومحاولة لإسكات معارضيها تحت ادعاء معارضتهم لها. فمن بديهيات الصراع السياسي هو الخلاف ويظل الفارق بين فصيل وآخر هو القدرة على التعبير عن هذا الخلاف بسلمية من جهة، ومحاولة التوصل إلى أرضية مشتركة من جهة أخرى. بيد أن ما فعلته جماعة «الإخوان» رفع عنها أي غطاء ديموقراطي قد تحاول من خلاله تجميل صورتها. ثالثاً: عكست الأزمة انحدار الخطاب السياسي للإخوان إلى مستوى من العنف اللفظي والتحريض بشكل لم يكن موجوداً من قبل. وهو ما أدى في النهاية إلى عنف مادي وجسدي ضد مخالفيهم. وطيلة الأسبوعين الماضيين أدلى العديد من قيادات الجماعة بتصريحات متوترة حول كيفية التعاطي مع الرافضين للرئيس مرسي وإعلانه الدستوري. وبعد أن كانت الجماعة حريصة ومتحفظة في لغتها وخطابها فقد وقعت في الخطأ نفسه الذي كثيراً ما انتقدت بسببه معارضيها وهو اللجوء إلى خطاب يحض على العنف والكراهية السياسية. رابعاً، وهو الأهم: فقد بات واضحاً أن جماعة «الإخوان» تنحو وبقوة تجاه «السلفنة» والتحالف مع القوى والتيارات السلفية المتشددة. وهي بذلك تكون قد ضحت بعلاقتها بالقوى الليبرالية والمدنية التي كثيراً ما شكلت تحالفاً مع «الإخوان» قبل الثورة من أجل التيارات الإسلامية الأخرى. وكأن الجماعة بذلك استبدلت وجهها «المدني» بوجه آخر محافظ ومتشدد بشكل يثير الاستغراب. فجميع الفاعليات والتحركات والتظاهرات التي تقوم بها الجماعة حالياً تنسق فيها مع القوى اليمينية المتشددة. وكأن ثمة تناغماً أو صفقة بين الجماعة وهذه التيارات وهو ما وضح جلياً خلال التظاهرة الشهيرة التي قامت قبل أسبوعين ورفعت شعار «الشرعية والشريعة». وهنا تحاول الجماعة أن تبعث برسائل عديدة للداخل والخارج ليس أقلها إثبات قدرتها على حشد الشارع الإسلامي بمختلف أطيافه وتياراته خلفها وخلف الرئيس مرسي. فمن جهة تعتقد الجماعة أنها بذلك قد ترهب خصومها داخلياً، ومن جهة أخرى يمكنها الضغط على حلفائها الغربيين والحصول على دعمهم باعتبارهم أقل وطأة من المتشددين. بيد أن الجماعة تنسى أن نجاحها في حشد السلفيين يمثل خصماً من رأسمالها المدني وسوف يدفع بالكثير من قواعدها إلى «السلفنة» والمحافظية الدينية والسياسية وهو أمر قد بدأ فعلياً خلال السنوات القليلة الماضية. خامساً: كشفت الأزمة عن انتهاء أسطورة التيار الإصلاحي داخل جماعة «الإخوان» بشكل فعلي. فقد تصدر المشهد طيلة الفترة الماضية التيار الأكثر تشدداً وانغلاقاً داخل «الإخوان». وتورط بعض رموزه في التحريض على العنف والحشد غير المحسوب. بل الأكثر من ذلك أن بعض من كنا نظنهم على درجة من الوعي والعقلانية قد انزلق إلى الخطاب التحريضي نفسه وأدلى بتصريحات أبعد ما تكون عن الرشد السياسي. وبات واضحاً أن الجيل الأكثر تشدداً هو المسيطر والمتحكم في كل قرارات وتحركات الجماعة. سادساً: كشفت الأزمة عن اتجاه «الإخوان» تدريجياً إلى ممارسة قدر من التعبئة الطائفية. فعمليات الحشد التي تقوم بها الجماعة سواء لدعم الرئيس مرسي أو لإقرار الدستور الجديد تتم تحت شعار «من ليس معنا فهو ضدنا». وهو مبدأ فضلاً عن افتقاده الوسطية والاعتدال اللذين كثيراً ما ميزا خطاب وسلوك «الإخوان»، فإنه يخلق أعداء جدداً للجماعة. وعليه فقد بات كل معارض للإخوان في فريق الخصوم والمتآمرين أو جزءاً من «الفلول» من بقايا نظام مبارك. ناهيك عن الاستخدام الكثيف للدين في بناء المواقف من خصومهم السياسيين وفق منطق «الحق والباطل» و»الجنة والنار» وهكذا. وختاماً، لو علم المصريون أن دماءهم وأشلاء أبنائهم سوف تتناثر فوق أسوار قصر أول رئيس منتخب لربما أعادوا التفكير مراراً قبل القيام بثورتهم. * كاتب ومحاضر مصري - جامعة دورهام، بريطانيا. [email protected]