يوجد شيء من القاسم المشترك بين كل من المستشار السابق في وكالة الأمن القومي الأميركي إدوارد سنودن الذي أطلق «صفارة الإنذار» على تجاوزات الولاياتالمتحدة بالتنصت على الشعب الأميركي وعلى دول مثل الصين وروسيا، وبين الشيخ السني أحمد الأسير، الذي أطلق «صفارة الإنذار» على هيمنة «حزب الله» على لبنان بالسلاح والتخويف وجعل من نفسه ظاهرة أخمدها هو بنفسه. كلاهما، سنودن والأسير، وجد نفسه هذا الأسبوع مُطارَداً ومطلوباً أمام العدالة بسبب أفعال غير شرعية من وجهة نظر كل من الإدارة الأميركية والحكومة اللبنانية. كلاهما مجهول المكان والمصير، كل منهما اعتبر نفسه مدافعاً عن الحق، وربما بطلاً. لربما هنا تنتهي أوجه التشابه والقواسم المشتركة، فسنودن أطلق حالة توتر في العلاقة الأميركية– الروسية والأميركية– الصينية واستدعى الدول التي تكره الولاياتالمتحدة للتهكم على «النفاق» الأميركي عندما يتعلق الأمر باحترام الحريات الشخصية وحقوق الأفراد. ومن بين أبرز مظاهر الأذى التي خلفتها أفعال سنودن –إلى جانب فضح وكالة الأمن القومي ووسائلها–، أنه جعل من الرئيس باراك أوباما موضع تهكم وازدراء قادة من أمثال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فعزز القدرة على الاستخفاف بالولاياتالمتحدة ورئيسها. الأسير من جهته، كاد يجر لبنان إلى حرب أهلية عندما اختار توجيه رصاصه ضد الجيش اللبناني وطالب عناصره من السُنَّة بالانفصال عن الجيش. استراتيجيته الفاشلة ضد «حزب الله» جعلت منه موضع تهكم وشماتة «حزب الله»، الذي تلقى «هدية» الأسير بكل امتنان. سنودن والأسير طعنا بلديهما عندما لم يتحسبا لنتائج أفعالهما. والآن، إنها مرحلة تنظيف ما خلّفته ظاهرة الأسير البائسة أساساً، التي تبنت الرد على استقواء طرف منظم قوي بالاستقواء وبالسلاح وبحشد زمرة مسلحين وراءه ظنّوا أنهم تحت قيادة قديرة، وهذا يتطلب الكثير من الحكمة والتمهل من قِبَل جميع الذين يحاولون حماية لبنان من انزلاقه في فخ استدراجه إلى الحرب السورية. أما ما أطلقته حماقة سنودن عندما طار إلى هونغ كونغ وموسكو طالباً اللجوء السياسي، الأرجح إلى الإكوادور، فإنها لا تتمثل فقط ببراءة لمثالية –إذا كان هذا حقاً وراء صفارة الإنذار–، وإنما للحماقة أيضاً وجه الاستخدام للبراءة بابتزاز دولي الأرجح أنه لم يكن في ذهن سنودن أساساً. ثم إن انحسار النفوذ الأميركي في عهد الرئيس باراك أوباما ليس عائداً حصراً إلى الضرر الذي ألحقه سنودن عبر التسريب، وإنما هو عائد إلى سياسة الرئيس الأميركي نفسه، الذي وجد نفسه هذا الأسبوع موضع استخفاف طالبان أيضاً وليس فقط روسيا والصين وإيران. الوقائع معروفة في حالة سنودن، إذ إنه بعد إطلاق صفارة الإنذار على ما تقوم به وكالة الأمن القومي من تنصت، غادر إلى هونغ كونغ، وعندما طلبت واشنطن من الصين إلقاء القبض عليه، ردت الحكومة الصينية بأن الطلب «لا يستوفي جميع المستلزمات القانونية» بموجب قوانين هونغ كونغ، فتجاهلت بكين الطلب الأميركي وسمحت لسنودن بالرحيل بعدما تردد أنه كان آمناً في بيت وفرته له الحكومة الصينية. عندما سمعت واشنطن أن سنودن في موسكو، طلبت من السلطات الروسية قطع الطريق عليه قبل مواصلة سفره إلى الإكوادور وطلبت أيضاً اعتقاله بعدما أصدرت قراراً ظنياً ضده بتهمة التجسس. وجاء الرد الروسي عبر المتحدث باسم الرئاسة متهكماً، بأن عمله كموظف «ليس الموافقة على إصدار تذاكر سفر أو منع إصدارها». بعد ذلك كشف الرئيس الروسي، في أعقاب نفي وزير خارجيته سيرغي لافروف، عن تواجد سنودن في الأراضي الروسية، وعن أنه في منطقة «ترانزيت» في مطار موسكو، ثم تهكم بدوره على الإدارة الأميركية، فيما صعّد لافروف لهجة الاحتجاج الديبلوماسي ضدها، مؤكداً أنه لا توجد معاهدة تسليم بين روسياوالولاياتالمتحدة. أما فيما يخص وقائع ما حدث بين قيادة طالبان والقيادتين الأميركية والأفغانية، فإن فيها من الإحراج والاستهتار والاستخفاف ما يكفي للاستهجان: إدارة أوباما وافقت على مجيء الملا عمر –ويقال أيضاً شبكة حقّاني– إلى طاولة المفاوضات بالرغم من شروط الملا عمر ورفضه قبول الدستور الأفغاني ووقف النار مع قوات التحالف الدولي، وكذلك رفضه التعهد رسمياً بعدم السماح باستخدام أراضي أفغانستان مرة أخرى ملاذاً للإرهاب الدولي. حصلت طالبان على شرعية أميركية، عبر موافقة واشنطن على انضمامها إلى طاولة المفاوضات بشروطها، وكذلك شبكة حقاني، التي اعتبرتها واشنطن إرهابية سابقاً. قدمت واشنطن ما قدمته بلا مقابل يعود لها أو للحكومة الأفغانية، ما أثار غضب الحكومة الأفغانية ودعاها إلى رفض المشاركة في الاجتماع الذي كان مزمعاً عقده في الدوحة الأسبوع الماضي. أميركا ذات «حائط واطٍ» هذه الأيام في نظر الكثير من اللاعبين الدوليين، سيما أولئك الذين يكنّون الكراهية للولايات المتحدة ويتمترسون في ظل الفرصة المواتية لتحقيرها، إنما الأهم أن دولة مهمة مثل إيران تجد في إدارة أوباما أفضل حليف لها في «حائطه الواطي، الذي يمكِّنها من التسلق فوقه للعبور إلى تحقيق طموحاتها الإقليمية والنووية على السواء، فإدارة أوباما باتت الجهاز «الممكِّن» enabler لاطمئنان هذه الدول والجهات بأنها لن تحاسَب ولن تعاقب أميركياً مهما فعلت، لأن الرئيس الأميركي لا يجرؤ. عصر العجز الأميركي، كما بات يُسمى، أصبح جزءاً من استراتيجيات روسيا والصين وإيران وطالبان و «حزب الله»... وحتى «القاعدة» و «جبهة النصرة» وأمثالهما. سورية بالذات، الأمثولة الناصعة على إصرار الرئيس باراك أوباما على عدم الانجرار اليها مهما كان واضحاً وجلياً أنها على وشك السقوط في فلك النفوذ والسيطرة والهيمنة الإيرانية– الروسية بدعم الصين ومشاركة «حزب الله» في القتال. سورية الآن هي المثال الواضح على أن ترفّع الإدارة الأميركية عن استدراك خطر نمو التطرف فيها يساهم في إطالة الحرب وإنماء حركات التطرف المسلح بل إعادة اختراع «القاعدة» وأمثالها لنفسها داخل سورية وخارجها بقدرات قد تطاول لاحقاً عقر الدار الأميركية. عصر العجز الأميركي أعطى لكل من روسيا والصين القدرة على السيطرة الكاملة على مجلس الأمن الدولي. الفيتو المزدوج شلّ القدرة على استصدار قرارات ووضع هذه الهيئة المهمة في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين أداة مرهونة بالفيتو المزدوج. لو شاءت إدارة أوباما حقاً أخذ المسألة السورية على عاتقها، ولو لم تكن الولاياتالمتحدة في عصر العجز الأميركي، لتمكنت من حشد أكثرية أعضاء مجلس الأمن إلى جانبها ولأحرجت يومياً موسكووبكين باستدعائهما إلى الفيتو العشرين إذا تطلب الأمر، وربما لم يكن ليتطلب لو استنتجت القيادتان الروسية والصينية أن القيادة الأميركية فعلاً وحقاً جدية، فكلا القيادتين اتخذ من عنصر العجز الأميركي في ظل إدارة أوباما حجراً أساسياً في استراتيجية الفيتو وغيرها. رضوخ واشنطن أدى إلى استعلاء الآخرين، وكلما ازدادت الإدارة الأميركية رضوخاً كلما سال لعاب المتشوقين للاستخفاف بها وتنفيذ استراتيجياتهم على حسابها. رجال إدارة أوباما يساهمون في تشجيع رجال حكومة بوتين وملالي مرشد الجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي، وكذلك رجال طالبان وأمثالهم. شخصية الرئيس أوباما ووزير دفاعه تشاك هاغل ووزير خارجيته جون كيري، توحي بأن هؤلاء الرجال الثلاثة مقتنعون بأن أميركا هي المخطئة وعليها أن تعوّض عن ذنوبها. هؤلاء رجال لا يريدون معارك، وهم مسالمون، مسامحون، يتقبلون الصفعات والازدراء، وحتى الإهانة إذا جنّبتهم المعركة. إنهم رجال لا يخشون انتصار روسيا أو إيران أو الصين طالما الانتصار لا يكلفهم حرباً أو معركة. رجال آخرون خارج الإدارة الأميركية ينصحون رجال إدارة أوباما بالانكفاء على النفس والاهتمام بالداخل الأميركي بدلاً من التوسع في السياسة الخارجية، فرئيس «مجلس العلاقات الخارجية» ريتشارد هاس، يسوّق في كتابه الأخير فكرته «إعادة التوازن» في الاهتمامات الخارجية بعيداً من الشرق الأوسط باتجاه «الشرق»، حيث الصين وحليفها الاستراتيجي روسيا، فهناك -في رأيه- تتداخل وتتجاوب الدول الكبرى بعضها مع بعض، وليس في الشرق الأوسط، بغض النظر عن كل ذلك التداخل والمواجهة بين الدول الكبرى هذه في سورية، «فالشرق الأوسط يمكن أن يسبب مشاكل كبرى، لكنها مشاكل يسببها لنفسه وليس للعالم»، ويضيف هاس: «إن الشرق الأوسط في مطلع نزاع عنيف وطويل» ولذلك «علينا أن نتحلى بحكمة الاختيار»، وأن «نخفض مستوى اهتمامنا بالشرق الأوسط لنرفع المستوى في آسيا». سياسة «التحول إلى آسيا» برزت منذ فترة، عندما اكتشفت الولاياتالمتحدة أنها ستصبح مستقلة نفطياً بقدرات هائلة. الرئيس أوباما قرر الانصباب على معالجة الاقتصاد الأميركي والمشاكل الأميركية، وابتعد عن الانجرار إلى منطقة الشرق الأوسط بجميع مشاكلها ومطباتها، من إيران إلى إسرائيل مروراً بالعرب، حلفاء كانوا أو بقعة تجد فيها روسيا موقع قدم استراتيجياً لها: سورية. لعل الرئيس الأميركي هو الذي يملك الضحكة الأخيرة بعدما تغرق روسياوإيران حقاً في مستنقع سورية وفي حروب مذهبية وعقائدية. لربما -في رأيه- هو الذي سيضحك كثيراً في النهاية وليس تهكم القيادة الروسية أو شماتة القيادة في الإكوادور أو فنزويلا. لعلّه يبقى مترفّعاً عن الاستفزاز، ولعلّه يثور غضباً من الاستخفاف والازدراء. ومهما فعل، فإن قرار انحسار النفوذ الأميركي عالمياً هو قرار اتخذه باراك أوباما، وهذا أدى إلى تضاؤل الهيبة الأميركية وانحسار الاحترام للولايات المتحدة. وأيضاً، كشفت مواقف الرئيس أوباما من سورية تراجعاً في الاهتمام بقيم أساسية أميركية، مثل رفض المجازر ورفض التفرج على سقوط مئات الآلاف من المدنيين ضحايا قوى عسكرية. هي ذي السيرة التاريخية التي سترافق باراك أوباما –إذا ثابر على مواقفه–، سيرة سقوط الوجه الإنساني لأميركا، فالاختباء وراء الطائرات بلا طيار وحروب «السايبر» والتنصت غير الشرعي، لن يأتي على الرجل بالسيرة التي وعد بها العالم عندما رافقه العالم في إدخاله التاريخ بدخوله البيت الأبيض. لذلك، كان لا مناص من بروز أمثال إدوارد سنودن لإطلاق «صفارة الإنذار» على مَن نكث بوعوده وظن أنه كغيره، ماضٍ بلا محاسبة. سنودن أحسن وأخطأ في آن، أما الأسير، فإنه أخطأ وأخطأ في آن، والفارق كبير بالرغم من أوجه الشبه.