لعل ما دفع أسطورة كرة القدم العالمية البرازيلي بيليه إلى الاعتذار السريع عن تصريحاته الرافضة للاحتجاجات الشعبية في بلاده، إداركُه السريع أن التاريخ لا يرحم، وأن التصادم مع أشواق الثائرين على الظلم والتهميش مرتعُه وخِيم. ولئن جاءت تصريحات بيليه «المهدئة» لاعتبارات تتصل برمزيته وقربه من السلطة الحاكمة، إلا أن الاحتجاجات في البرازيل قوبلت بموجة عارمة من الالتفاف حولها من لدن لاعبين مشهورين في كرة القدم التي تعد هواء البرازيليين وماءهم. فها هو اللاعب نيمار (الذي يعد خليفة بيليه) يسارع إلى تقديم ولائه للمحتجين، واصفاً حراكهم بأنه «ملهم لي». وقد فعل الأمر نفسه لاعبون برازيليون كبار مثل روماريو وريفالدو في مشهد لم يتكرر في بلاد السامبا من قبل، فضلاً عن أن البلاد لم تشهد مثل هذا السخط منذ أكثر من عشرين عاماً، إذ وصل الاحتقان الاجتماعي إلى حد المطالبة بالتخفف من البذخ الذي تنفقه الحكومة على كرة القدم، وتحضيرات كأس القارات الجارية حالياً، إضافة إلى تحضيرات المونديال الذي سيجري صيف العام المقبل، والأولمبياد في 2016 والذي خصص لهما أكثر من 26 بليون دولار. المتظاهرون الذين ناف عددهم على المليون يدشنون «ربيعاً» برازيلياً في القارة التي شهدت أعتى الثورات وحركات التغيير في العالم، فلأول مرة تصدح حناجر البرازيليين بأن التعليم والصحة، والنقل العام، وتأمين الاحتياجات الأساسية للمواطنين، ومحاربة الفساد وسوء الإدارة أهم من كرة القدم، وهذا في حد ذاته انقلاب في المعايير، وتبدّل في الأولويات لا يمكن أن يكون وراءه إلا ما هو ملح وأساسي... وقاهر. وكسائر ثورات الربيع العربي، و «التركي»، كان محرك الانتفاضة الشعبية في البرازيل ووقودها من الشباب الثائرين الذين رفضوا أن يلتئموا تحت يافطة أي حزب سياسي، ليقينهم أن الأزمة التي تمر بها البرازيل، والتي جعلت سعر كيلو الطماطم 4 يورو، تقع على كاهل الحكومة والمعارضة على حد سواء. إنه الفساد يعصف بالطبقة السياسية، ويجعل عشاق كرة القدم غير قادرين على امتلاك ثمن تذكرة لحضور مباراة في ملعب ماراكانا الذي قدرت تكاليف إعادة تأهيله وإصلاحه ب 230 مليون يورو، لترتفع في النهاية إلى 360 مليون يورو. وسبق للملعب نفسه أن تم إصلاحه مرتين خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية بتكلفة وصلت إلى 220 مليون يورو. ومن اللافت للانتباه في احتجاجات البرازيل أن المتظاهرين يرفعون شعارات مطلبية مباشرة ومحددة تتصل بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والخدمية العاجلة، ولم تتطرق إلى إسقاط النظام، ما يجعلها حركة ثورية تنشد إصلاح النظام، لا تغييره، وترنو إلى تصويب الحكم وترشيده، لا الانقلاب عليه وإطاحته، وهذا ميسم جدير بالانتباه. وما كان جديراً بالانتباه أيضاً في الانتفاضة البرازيلية أنها لم تواجَه بالقمع الدموي، وكذلك لم توجّه إلى المشاركين فيها تهم العمالة والاتصال بالخارج والتحريض على تقويض الدولة، كما حدث في المشهد الأقرب زمانياً، أي تركيا، وكان خطاب الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف إيجابياً، فهي لم تستعر عبارة القذافي «من أنتم؟» بل خاطبت شعبها «أنا أسمعكم»، ووصفت الاحتجاجات الهادرة بأنها «قوة لديموقراطيتنا». كما وعدت بالعمل السريع على إخراج البلاد من أزمتها العاصفة. بَلَدان، خارج نطاق الربيع العربي، هبّت عليهما رياح الانفجارات الاجتماعية المدوّية، وهما، أي تركيا والبرازيل، نتاج حالة ديموقراطية لا شك في أدوات صيرورتها وتبلورها، لكن الرد البرازيلي كان هادئاً ومتعقلاً إلى حد كبير، بخلاف رد أردوغان المتوتر الذي أحسّ، كبقية زعماء السلالة الديكتاتورية، بأن الاحتجاجات التي اندلعت في ميدان تقسيم كانت تستهدف التحدي السافر لسلطته، فتعامل معها بطريقة «قبيحة وغير ذكية» على حد وصف «الغارديان». في البرازيل كان الأمر مختلفاً، وكانت بلاد السامبا، رغم وطأة القهر والظلم وغياب العدالة، تتعاطى مع أزمتها بروح رياضية فيها قدر عال من التسامح وكذلك من الدهشة التي تعيد ذلك القول التلفزيوني المأثور: «إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في إيطاليا، فعليك أن تعرف ماذا يجري في البرازيل»! * كاتب وصحافي أردني