تعتبر قصيدة تي. إس. إليوت «الأرض الخراب» (أو «اليباب» في بعض الترجمات الأكثر دقةً) أشهر قصائده على الإطلاق، بل ربما كانت في نظر كثر، من أشهر القصائد التي كتبت في اللغة الإنكليزية في القرن العشرين. وهي من الشهرة بحيث إنها طغت دائماً على قصائد إليوت الأخرى على رغم ان هذه القصائد قد اشتهرت بدورها وتُرجمت إلى عدد كبير من اللغات، من بينها العربية. والحقيقة انه إذا كانت «الارض الخراب» قصيدة مميّزة تحمل عوالمها الخاصة وآفاقها الملحمية بجدارة، فإن ثمة بين أشعار إليوت الكثيرة الأخرى قصيدة تحتل في حياة هذا الشاعر وعمله، مكانة لا تقل أهميةً عن المكانة التي تحتلها «الأرض الخراب»، وإن كان من موقع مضاد تماماً، من الناحية الفكرية على الأقل... إذ لسنا نناقش هنا الناحية الجمالية، مع العلم أن «الأرض الخراب» تتفوق من ناحية أسلوبها ولغتها وتركيبها، ليس فقط على قصائد إليوت الأخرى كلها، بل على معظم الشعر الذي كتب في القرن العشرين، من دون أن ننسى ان كثيراً من هذا الشعر إنما استوحى إليوت، ولا سيما «الأرض الخراب»، في لغته وأسلوبه، لكن هذه حكاية أخرى. القصيدة التي نشير إليها هنا هي «أربعاء الرماد» التي كتبها إليوت أواخر سنوات العشرين من القرن الفائت، وتحديداً بعد اعتناقه المذهب الكاثوليكي، على الطريقة الإنكليزية متخلّياً عن بروتستانتينيته الأميركية الأولى التي كانت قادته إلى شكوك وعلمانية وغنوصية أمضى سنوات طويلة من حياته محاولاً التخلص منها للوصول إلى إيمان وصل إليه حين أعاد اكتشاف الكاثوليكية واعتنقها. وقد كانت قصيدة «أربعاء الرماد» أول قصيدة طويلة له يكتبها بعد ذلك التبدّل الأساس في حياته. وما القصيدة، في نهاية الأمر، سوى التعبير الصارخ الصادق عن ذلك التغيير. «أربعاء الرماد» هي، إذاً، قصيدة عودة إليوت إلى الإيمان، ممثلة ذروة الصراع الداخلي الذي خاضه الشاعر طوال سنوات أحس خلالها انه يفقد إيمانه تدريجاً وأن أفضل ما سيحدث له إنما هو عودته إلى الله. وهو عاد إليه بالفعل كما يمكن كل قارئ لهذه القصيدة الطويلة ان يلاحظ. ومن هنا، منذ نشرت «أربعاء الرماد» للمرة الأولى عام 1930، بدأ التعارف على تسميتها «قصيدة العودة إلى الإيمان». في البداية، طبع إليوت من قصيدته هذه ستمئة نسخة رقّمها ووقّعها ووزعها على أقرب أصدقائه المقربين. ولكن بعد شهر واحد من وصول القصيدة إلى قرائها النخبويين، طبع إليوت منها ألفي نسخة في بريطانيا، ثم ألفي نسخة أخرى في أميركا لتوزع توزيعاً تجارياً عادياً، متخذة بذلك مكانها العادي في ميدان شعر القرن العشرين، ومكانها الاستثنائي في مجال الإعلان عن إيمان صاحبها. تصوّر هذه القصيدة، ومنذ الوهلة الأولى، بالاستناد إلى ما يشبه البنية التي جعلها دانتي لقسم «المطهر» من قصيدته «الكوميديا الإلهية»، تصوّر في عبارات غنية إنما لا تخلو من التباسات - وفق بعض النقاد الذين تناولوها - تطلّع الإنسان، أي إليوت في حالنا هذه الى التحول من الخواء الروحي الذي وجد نفسه يعيش فيه، إلى معانقة الأمل في الوصول إلى الخلاص البشري، وخصوصاً من طريق إعادة اكتشاف الله داخل هذا الإنسان. ولعل أول ما يجدر بنا ان نلاحظه في هذا الإطار، هو أن أسلوب هذه القصيدة يكاد يكون مختلفاً إلى حد بعيد وحتى في مجال استخدام اللغة ومشتقاتها، عن أسلوب تلك القصائد التي كان الشاعر كتبها خلال الفترة السابقة مباشرة على اعتناقه الكاثوليكية. بل يمكن ان نقول هنا أيضاً ان «أربعاء الرماد» خلقت لغة وأسلوباً جديدين لدى الشاعر اتسما، من ناحية بغنائية مفرطة - لم تكن معهودة في أشعاره في السابق -، ومن ناحية ثانية بحسّ تأملي جديد، يكاد يبلغ حدود الحلولية، ناهيك بارتباط لغتها ومعانيها منذ ذلك الحين وصاعداً بنوع من النزعة السببية. وهذا كله جعل كثراً من نقاد الشعر يبدون مقداراً كبيراً من الحماسة للشاعر وأسلوبه الجديد، فيما وجد آخرون أن القصيدة تبريرية تصل في بعض معانيها إلى حدود السذاجة لتسجّل تراجعاً كبيراً في المنحى الشعري لإليوت. والحقيقة ان أول ما نلاحظه في هذه النظرات النقدية المتعارضة إنما هو انطلاقها من أفكار مسبقة عن الشاعر والدين والحياة والفكر في شكل عام، إذ يمكن وبكل سهولة معرفة فلسفة كل ناقد من الذين تناولوا «أربعاء الرماد» من خلال موقفه من القصيدة، والتأكد في نهاية الأمر من أن كل كلام جمالي ورد في سياق الحديث النقدي لم يكن أكثر من قناع يغطي موقف الناقد من الشاعر لا من شعره. ومن هنا، لم يكن غريباً ان يكتب شاعر مسيحي كبير هو ادون مومير، معتبراً «أربعاء الرماد» الأكثر «تأثيراً من بين كل القصائد التي كتبها تي. إس. إليوت في حياته... بل ربما يصح القول إنها أكثر قصائد هذا الشاعر اقتراباً من الكمال». بعد هذا، وبعيداً من هذا السجال «الإيديولوجي» الذي ثار من حول القصيدة، لا بد من التوقف هنا عند بعض الأمور الأساسية التي تتعلق ب «أربعاء الرماد» والتي كثيراً ما توقف النقاد ومؤرخو حياة إليوت عندها... وفي مقدمها ان الشاعر وعلى جري عادته في الكثير من قصائده السابقة، استعمل في نظم هذه القصيدة، أبياتاً ومقاطع وفقرات من أشعار له سابقة عليها، بل مزج فيها حتى قصيدة أو قصيدتين كان سبق له أن نشرهما مستقلتين من قبل، ثم ما إن دمجتا في «أربعاء الرماد» حتى صارتا جزءاً منها وأُلغيتا من الطبعات اللاحقة لأشعار الشاعر. وفي هذا الإطار، يصل الباحثون إلى القول ان ثلاثة من بين الأقسام الخمسة تتألف منها هذه القصيدة، كان سبق لها أن نشرت من قبل، إما على شكل قصائد مستقلة، أو على شكل مقاطع مبتسرة أو فقرات متنوعة. وهكذا مثلاً نجد أن القسم الثاني من القصيدة إنما يتألف بأكمله من قصيدة salwtation التي كان إليوت نشرها في مجلة «ساترداي ريفيو اوف ليتراتشور» خلال خريف العام 1927، كما عاد ونشرها بعد ذلك في مجلته «كريتريون» بعد أقل من شهر واحد من ذلك. أما القسم الأول من «أربعاء الرماد» فكان في الأصل قصيدة مستقلة عنوانها «لماذا لا آمل» io no spero perch، نشرها في ربيع عام 1928 مرفقة مع ترجمة فرنسية لها. والقسم الثالث من «أربعاء الرماد» كان نشر في عدد خريف 1929 من مجلة «كومرس» الفرنسية كقصيدة مستقلة عنوانها «قمة السلم». لكن القصيدة ككل، تبدو مع هذا شديدة الترابط، ذات وحدة عضوية، إذ إن إليوت تمكن فيها من ان يلم شتات أفكاره ويلجأ إلى يقين إيماني جديد، حرّك لغته وأطلق أسلوبه، فكانت هذه القصيدة التي تبقى واحدة من أهم قصائد العودة إلى الإيمان التي كتبها شاعر في القرن العشرين. ونعرف ان توماس سيترنز إليوت (1888- 1965) هو واحد من كبار كتّاب الشعر والمسرح والنقد في اللغة الإنكليزية في القرن العشرين، هو الذي ولد أميركياً لأسرة إنكليزية الجذور، لكنه بعد دراسة جامعية في أميركا وبريطانيا وفرنسا، آثر ان يعيش بقية حياته في إنكلترا، حيث صار واحداً من كبار أعلام الكتابة فيها، ما جعله يفوز بجائزة نوبل للآداب في العام 1948. وإضافة إلى ما ذكرنا من أعمال اشتهرت لإليوت، مسرحيات مثل «مقتلة في الكاتدرائية» (1952) و «الاجتماع العائلي» (1939)، كما اشتهرت من بين أشعاره «أغنية حب من برفروك» و «أربع رباعيات»... [email protected]