** تشكّل المسودات الأولى لإبداعات الشعراء والكُتّاب إضافة هامة وحيوية عند النُقّاد، وخصوصًا إذا كان ذلك الشاعر أو المبدع يمثّل نقلة هامة في تاريخ الفن الذي أودعه أحاسيسه ومشاعره؛ كما هو الشأن مع شاعر كبير مثل توماس ستيرنز إليوت T.S.Eliot، والذي أحدث نشر زوجته الثانية فاليري إليوت Valerie Eliot لمخطوطة قصيدته الأكثر ذيوعًا في الشعر الحديث “الأرض اليباب” كما ترجمها الناقد عبدالواحد لؤلؤة، أو “الخراب” كما يرى إبراهيم العريس في دراسته عن القصيدة التي نشرها في صحيفة الحياة “الأربعاء 17 ديسمبر 2003م الموافق 23 شوال 1424ه”، أحدث نشر صورة المسودات الأصلية ضجة كبيرة، وذلك في عام 1971م عن طريق دار النشر المعروفة Faber And Faber Limited، ثم أعيدت طباعتها سنة 1980م في المملكة المتحدة عن طريق دار: BAS. ولقد نشرت هذه المخطوطات بتهميشات من صديقه الشاعر عزرا باوند Ezra Pound 1858-1972م، والذي أهدى إليه إليوت عمله الشعري؛ واصفًا إيّاه بأنّه “الصانع الأمهر”. ويتضح من خلال تاريخ وفاة عزرا أنه توفي بعد عام واحد فقط من ظهور المسودات الأولى من قصيدة “الأرض اليباب”، وسبق لإليوت أن قام في حياته بتحرير مجموعة الكتابات الأدبية النثرية ل”باوند”. [انظر: Ezra Pound Selected Poems, 1908-1959 Faber And Faber Limited, 1975م. ** لم يتوقف وفاء زوجة إليوت عند تقديم المسودات الأولى لتلك القصيدة؛ بل تعدّاه إلى تهذيبها لرسائله الشخصية، ونشرها في مجلدين؛ الأول منهما يُغطي الفترة بين عامي 1898-1922م، والثاني يتناول فترة قصيرة لا تتجاوز الثلاثة أعوام 1923-1925م،. ** وقد قام الناقد الإنجليزي Jermy Noel Tod بتقديم قراءة لهذه الرسائل في الملحق الأسبوعي لصحيفة الديلي تلغراف عدد 11 نوفمبر 2009م”. ** يذكر الباحث Tod بأن الرغبة الأساسية التي كانت موجودة عند إليوت نفسه بعدم نشر رسائله الخاصة لم تكن واقعية أبدًا، حيث كان يتطلّع إلى أن تُدفن معه عند وفاته، ويبدو أن اشتمال الرسائل تلك على قضايا ذات طابع شخصي مثل علاقته مع زوجته الأولى “فيفيان هيك وود”، والتي توفيت بعد مرض طويل عام 1947م، إضافة إلى موضوع جدله الفلسفي حول قضية عداء السامية Anti-semitism، والذي كان يحرص إليوت على بقائه حبيسًا عن النشر، آخذين في الاعتبار أن إليوت اعتنق الكاثوليكية، ويرى الناقد لويس عوض أن مجموعة قصائده “أربعاء أيوب” مستمدة من أجوائها وصورها الشعرية من الروح الكاثوليكية. ومعلوم الموقف غير المعلن للعقيدة الكاثوليكية من اليهود الذين ما زالوا في موضع الدفاع عن النفس في موقفهم من المسيح عليه السلام خاصة، ومن أنبياء الله عامة؛ هذه العوامل وغيرها ربما كانت وراء رغبة إليوت في عدم نشر هذه الرسائل. ** كما تحتوي الرسائل الأولى على مكاتبات بين والده الذي كان يعمل بمطابع شركة:Hydraulic Press Brick Company والذي كان يشكو بأن ابنه - أي “إليوت” - قد تم إعطاؤه في جامعة هارفارد دروسا أعلى بكثير من سنِّه، وخصوصًا تلك المتصلة بما يُسمى “الثقافة الجنسية”، وتعكس هذه القضية تديّن أسرة إليوت، فجدّه من أبيه كان يحمل دكتوراه في اللّاهوت من جامعة هارفارد، أما والدة الشاعر كما يذكر الناقد عبدالواحد لؤلؤة بأنها كانت امرأة ذكية وذات اهتمامات خاصّة في الأدب والدين. [انظر: الأرض اليباب، دكتور عبدالواحد لؤلؤة، ط1، 1400ه - 1980م ص8]. ** تشير الرسائل أيضًا إلى أن بعضًا من قصائد إليوت ذات علاقة متشابكة مع قصة زواجه الفاشل من فيفان هيك Vivan Haigh، وقد كانت نهايتها مؤلمة في إحدى المصحات العقلية عام 1938م، وهذا يستدعي في الذاكرة نهاية الأديبة العربية المعروفة مي زيادة، وهي نهاية مؤلمة أيضًا. ** تتضمن الأوراق أيضًا سردًا - لم ينشر من قبل - عن علاقة إليوت بالشاعر “عزرا باوند”، والذي قام بنشر قصائد إليوت مع زوجته الثانية “فاليري” حيث كان ل“باوند” دور هام في إقناع إليوت بالبقاء في بريطانيا، كما تتعرض لعلاقته مع الفيلسوف “برتارند راسل” Bertarnd Russel. ** من ضمن هذه المجموعة من الرسائل توجد رسائل عاطفية خاصة بين إليوت وسيدات أخريات يرمز لهن دون ذكر الأسماء. ** لعل السؤال الذي يطرح نفسه بعد نشر هذه الرسائل الخاصة بحياة هذا الشاعر المتميز هل أن فشل زواج إليوت الأول كان وراءه العامل الشخصي للشاعر نفسه؛ حيث شهدت حياته كثيرًا من التقلبات الأيدلويوجية والفكرية، والتي رمت به في أحضان الديانة الكاثوليكية المتشدّدة، أو أن المرأة الوحيدة التي استطاعت تفهّم طبيعة حياته هي زوجته الثانية فاليري Valerie، والتي كانت تشاطره الهم الأدبي والقلق الفكري، وهو ما بدا واضحًا في اهتمامها بأعماله الخاصة؛ حتى تلك التي تتصل بموقفه من قضية عداء السامية، على رغم شدّة حساسيتها في المجتمع الغربي الذي سعي للتخلّص من اليهود ودفعهم لاحتلال أرض غير أرضهم حتى تكون سكنًا لهم، وهو ما تسبّب في ضحية شعب آخر أعزل هو الشعب الفلسطيني.