«اننا في عالم الكتابة بالإٍنكليزية كثيراً ما نتكلم عن التقاليد، أي عن الأصالة، ومع هذا فإننا في الكثير من المناسبات نذكر اسمها فقط كي نشكو غيابها». بهذه الكلمات عبّر الشاعر ت.اس.اليوت عام 1919، عن موقفه من التقاليد، ويعني بها هنا، الأصالة، أي ما سبق من ابداعات شعرية ونثرية خاصة. وكان ذلك في واحد من أول كتبه النقدية «التقاليد والموهبة الفردية». والحال أن قراءة هذا الكتاب اليوم بعد تسعين عاماً من صدوره، وبعد عقود طويلة من رسوخ الفكرة التي تؤكد على حداثة الشاعر والناقد الطليعي، بمعنى ما، الذي كانه اليوت، قد تدفعنا الى الحيرة، ذلك أن ما في هذا الكتاب قد يبدو متنافياً كل التنافي مع فكرتنا عن صاحب «الأرض اليباب» و «أربعاء الرماد». إذ ان هذا الشعر، الذي نال اعجاباً كبيراً وقلّد كثيراً خلال النصف الثاني من القرن العشرين، يوحي من فوره بأن صاحبه كان متمرداً على التقاليد الشعرية تماماً، وأنه لبث حياته كلها يسعى وراء كل ما هو جديد منقطع مع تقاليد السلف، أو على الأقل السلف المباشر. غير أن الذي يقوله لنا اليوت في هذا الكتاب، هو عكس ذلك تماماً. ولعل أغرب ما في الأمر هو ان اليوت نشر هذه الدراسة في قسمين في مجلة «الأناني» قبل أن يضمها الى كتابه النقدي الأول «الغابة المقدسة». ونعرف أن ظهور اليوت في ذلك الحين كناقد أدبي ومنظّر للشعر خاصة، فاجأ كثراً من الذين كانوا قبل ذلك ينظرون اليه على أنه شاعر وحسب. هؤلاء لم يكونوا يتوقعون منه أن يبرز بكل تلك الدراسات النقدية التي كتبها، وبكل تلك النظريات التي صاغها، والتي تواصلت كتابته لها ودفاعه الصارم عنها، الى درجة سمحت للباحث دلمور شوارتز أن يطلق عليه لقب «دكتاتور الأدب». غير أن الأهم من هذا هو أن هذه الدراسة بالذات رسخت كلاسيكية اليوت في نظرته الى الأدب، بمقدار ما كان شعره قد رسخ طليعيته وفرديته. وتنبع هذه النظرة الكلاسيكية، طبعاً، من خلال الدراسة المعمقة التي أراد اليوت أن يعممها حول الشاعر المعاصر وعلاقته الحتمية - في رأيه - بكل المتن الشعري الذي كان قد سبقه. يقول الباحثون الذين كثيراً ما تناولوا هذا الكتاب بالدرس والتحليل ان اليوت انما أراد منه أن ينسف ذلك الاعتقاد الذي كان قبله ويفيد بأن كل تقدم في الإبداع، لا يمكن أن يتم إلا من خلال التغيير التام والقطيعة التامة مع التقاليد التي سبقته... بالنسبة الى اليوت العكس هو الأصح: ان الفنون، والشعر خاصة، لا تتقدم إلا حين تنتمي مباشرة الى التقاليد السابقة عليها. غير أن هذا التأكيد لا يأتي اعتباطاً لدى اليوت، ذلك أنه لا يلبث بعد ايراده أن يفسر لنا، ويحدد، ما الذي يعنيه بالتقاليد، وأي شعر هو الذي يعتبره منتمياً الى هذه التقاليد: انه الشعر - والفن عموماً - الذي يقف دائماً خارج الزمن. الفن الذي ينفلت من عقال اللحظة التي أنتج أو قرئ فيها. بمعنى ان ليس كل ما كتب وقرئ، يجوز أن يكون منتمياً الى هذه التقاليد وأن يعتبر كلاسيكياً وعريقاً. فالإبداع الكبير هو الذي يفلت من أسر الزمن ويجد نفسه معبراً عن الماضي والحاضر في آن معاً. ومن هنا فإن على الشاعر المعاصر الحق، أن يجسد في داخله، على سبيل المثال، كل الشعر الذي سبقه منذ هوميروس على الأقل، انما من دون أن يفوته ان مهمته الأولى، والأساس، هي أن يعبر عن الحاضر الذي هو على تماس معه، زمنياً، ومكانياً. وفي هذا الإطار يسعى اليوت خلال صفحات وصفحات الى نسف الفكرة المسبقة التي يتصور أننا نحملها عن الشاعر «الذي تمكن عظمته وفرادته وفرديته، في قدرته على الانفصال كلياً عن الذين سبقوه». وهنا يقول اليوت بكل وضوح: «ان الجزء الأكثر فردية من نتاج الشاعر، هو الجزء الذي يتجلى فيه تعبير الشعراء الراحلين، أي أسلافه، عن خلودهم من خلال كلماتهم». ويزيد اليوت هنا ان هذا «الحس التاريخي» لا يكمن في محاكاة الأعمال السابقة، بل في ادراك علاقتها شعره وتفهّم شعره لها. وهنا ينبه اليوت: كل أولئك الكسالى وغير الموهوبين من الذين قد يسيئون فهم ما يقول، ينبههم الى ان الأمانة للتقاليد لا تتطلب من الشاعر العظيم، أن يغض النظر عن ضرورة التجديد والابتكار تحت وطأة الاستسلام المخزي أمام التكرار. فالتقاليد غير التكرار... بخاصة ان اليوت يملك تصوراً شديد الدينامية والتاريخانية لمفهوم التطور والتقدم ولا سيما في السيرورة الشعرية. بالنسبة اليه التجديد والابتكار «يكونان ممكنين، وممكنين فقط، من خلال الارتباط المبدع بالتقاليد» ف «حين يكون الشاعر منخرطاً في ابداع عمل جديد له، يكون في الوقت نفسه منخرطاً في انجاز منظومة جمالية مثالية، على النمط الذي كان أنجزه أصحاب التقاليد الشعرية الذين سبقوه. ومن هنا فإن فعل الخلق الفني، لا يقوم في فراغ». في اختصار، يقول اليوت: «ان ادخال عمل جديد في تاريخية الإبداع، أنما يأتي ليخلخل تماسك المنظومة القائمة - من دون أن يغض الطرف عنها أو يلغيها بالطبع - ما يجعله، بالتالي، يحدث تعديلاً وضبطاً للقديم يجعلانه متلائماً مع الجديد. وبالتالي فإن وجود العمل الجديد، لا ينسف العمل القديم بل انه يبدل الطريقة التي يُنظر بها اليه. أو، بكلمات اليوت: «ما يحدث حين يبدع عمل فني جديد، هو شيء يحدث، في شكل متزامن، بالنسبة الى كل الأعمال الفنية التي سبقته...». وفي هذا الإطار يقول دارسو أفكار اليوت هذه أن هذه الأفكار هي التي تؤدي الى ما يسمى ب «نظرة اليوت غير الشخصية في الشعر». فيما ان الشاعر، كما يقولون تفسيراً لأليوت، يخوض نوعاً من «تسليم ذاته في شكل متواصل الى منظومة التقاليد الفسيحة، ليصبح الإبداع الفني، سيرورة تنحو الى نزع الذاتية أو نزع الشخصية. وانطلاقاً من هذه الفرضية يُنظر الى الشاعر الناضج، أي الشاعر الحقيقي على أنه وسيط، تمر التقاليد عبره وتصاغ أو يعاد صوغها في شكل متواصل. ولا يفوت اليوت هنا أن يقارن الشاعر بعنصر محرك في عملية كيميائية. حيث، في اللعبة الشعرية، تصبح عناصر التحريك، المشاعر والعواطف. وبما ان عقل الشاعر يكون عنصراً ضرورياً في لعبة الإنتاج هذه، يبقى - هذا العقل - غير متأثر من جراء تلك السيرورة. حيث أن الفنان «يختزن المشاعر والعواطف كي يتمكن من توحيدها في تركيبة واحدة، هي المنتوج الفني. ومن هنا فإن ما يضفي العظمة على العمل الفني، ليست المشاعر والعواطف في حد ذاتها، وإِنما طبيعة العملية الفنية التي تتوحد بها. وبالتالي يكون الفنان هو المسؤول عن توليد «الضغط الذي بفعله تتم عملية التوحيد»، أما ما يجعل الفن نفسه عظيماً فهو كثافة الضغط ولعبة المزج. ومن الواضح ان اليوت ينكر بهذا التحليل كله، تلك الفكرة أو النظرية التي تقول ان الفن انما يعبر عن وحدة ميتافيزيقية داخل روح الشاعر... لأن الشاعر في نظر اليوت، ليس أكثر من أداة منزوعة الذاتية، ليس أكثر من وسيط... واضح أن الذي يقرأ هذا الكلام السابق كله ويكون محملاً مسبقاً بأفكار عن اليوت مأخوذة بالواسطة، وليس في شكل مباشر من كتاباته النقدية وأشعاره، سيجد نفسه أمام مفاجأة كبيرة... ولكن على العكس من هذا، حين يقرأ هذا العرض، قارئ قرأ أشعار اليوت ومسرحياته ومقالاته مباشرة، لن يدهش أبداً، لأن هذا الشاعر والناثر والناقد الذي هيمن على أواسط القرن العشرين، كان واضحاً في كتاباته الإبداعية، التي، في الحقيقة، سيزيدها تعرف قارئه على نظرياته هذه، قوة وتماسكاً. فتوماس ستيرن اليوت، الأميركي الذي تحول انكليزياً، والذي أوصله أدبه ونقده الى أن ينال جائزة نوبل الأدبية عام 1948، كتب ابداعاً عقلياً جعله من كبار الكلاسيكيين في القرن العشرين، حتى وإن كانت صورته تبدت مختلفة تماماً. في ما كتب عنه، وليس في ما كتبه هو نفسه. [email protected]