يُحيّر باتريك موديانو قراءه: كيف لكاتب مولود في 1945 وليس قبل 5491 أن «يتذكر» بهذه الدقة والتفاصيل باريس خلال فترة الاحتلال الالماني (1940- 1944)؟ بنى موديانو مدينته معتمداً على مخيلة تتحرك دوماً بين نقطتين أو زمنين: الحاضر والماضي. استعمل ما قرأه من جرايد ومذكرات ورسائل وأوراق صفر، مثله مثل التحري الفاقد الذاكرة في روايته الفائزة بغونكور 1978 «شارع المحلات الغامضة». لجأ أيضاً الى قصص سمعها وهو ينشأ: قصص أهله والمحيط. ما يعني ان ذكرياته شبه خيالية! نحن في حاجة إلى قراءته في لغته الأصلية أو في ترجمات ممتازة (راجع مثلاً الترجمة الانكليزية للرواية المذكورة آنفاً، وهي ترجمة صدرت في لندن في 1980 تحت عنوان مختلف وهو « شخص مفقود»). من دون قراءة باتريك موديانو في لغته الأصلية أو في ترجمة بارعة ومحترفة لن نكتشف فعلاً قدراته: من دون الاسلوب واللغة يضيع الأدب تحت ركام كلمات. عبدالدائم السلامي يأنس روائيٌّ مّا بمكان مّا فيجعل منه مسرحاً لأحداث رواياته على غرار حضور القاهرة في أشهر روايات نجيب محفوظ التي نعرف. ويحتفي آخرُ بزمن من أزمنة الناس فيتخذه إطارا يُجْري فيه سردَه كما فعل «ماكس غالو» باختياره زمنَ الحرب العالمية الثانية مداراً لمجموعة من رواياته مثل «انتصار الحرية» و «نسمة النصر» و «طلوع الشمس». ويمكن أن يَخُصّ روائيٌّ شخصيةً أثيرة لديه، وذات حضور تاريخي، بمجموعة من الروايات على حدّ ما فعل جول فيرن مع شخصية أبراهام لنكولن في روايات «وصية غريب الأطوار» و «رأساً على عقب» و «الجزيرة الغامضة» وغيرها. أمّا أن يكتب روائيّ ما يزيد عن عشرين عملاً تتشابه كلها في طبيعة شخصياتها وفي هندسة جغرافياتها وفي زمن مغامراتها السردية وفي طرائق بنائها الفنيّ، فلا تختلف إلا في عناوينها كما هي حال روايات باتريك موديانو الفائز بنوبل الأخيرة (2014)، فهو لَأمْرٌ يثير لدى القارئ أسئلة: هل موديانو يلعب على ذقون قرّائه ويرى فيهم قليلي الفهم ويحتاجون إلى التكرار ليبلغوا كُنهَ معناه؟ أم هو روائيّ لا يمتلك إلاّ عجينة تخييلية واحدة لها طعم سرديّ تذكُّري واحد يعكف في أعماله على التنويع من تفاصيلها كما يفعل الخبّازون مع عجينتهم؟ أم إنّ رواياته صناعة جديدة لفعل الحكي؟ لا شكّ في أنّ هذه الأسئلة لا تنزع إلى التقليل من أهمّية أعمال موديانو الروائية، ولا نظنّها تروم تنغيصَ فرحته وفرحة محبّي رواياته بنيله جائزة نوبل للآداب في نسختها الأخيرة، وإنما هي تسعى إلى تبيُّن المشترك الفنيّ والثيميّ العام في مُجمل رواياته، وتعتمد ذلك سبيلاً إلى النظر في مدى مساهمة «التكرار» في تحقيق شعرية سردياته. يستعيد باتريك موديانو باريس الخمسينات في كلّ رواياته، ويجعل من شوارعها وأنهجها وساحاتها فضاءات تتحرّك فيها شخصياته وتتشابك فيها علائقها. غير أن باريس موديانو ليست باريس الراهن، إنها المدينة التي سقطت في أيدي الألمان يوم 14 حزيران(يونيو) 1940 وانتهكوا فيها حرمة مبانيها ومعالمها وناسها وملأوها فوضى وارتباكاً. وقد سجّلت ذاكرة الطفل موديانو آثار ذاك الغزو، حتى صار في ما بعد كلما رام كتابة أثر روائيّ استحضر من ذاكرته صورة من صور باريس القديمة، باريس أطلال الطفولة والشباب، ويتخيّر منها نهجاً أو مقهى أو شارعاً أو ساحة واقعة إمّا في وسطها وإما في إحدى ضواحيها، ليزرع فيها مغامراته السردية، بل ليجعل من تلك الأمكنة أبطالاً لمغامرات السرد تُوجِّه مصائرَ الشخصيات وفق طبيعة هندساتها. من ذلك أن قادح السرد في رواية «الأفق» (2010) تمّ في مدخل مترو الأنفاق في باريس حيث التقى البطل «بوسمانس» لأول مرة بصديقته «مارغريت لو كوز». وفي رواية «عشب الليالي» (2012) يظهر حيّ مونبارناس حاضنة مكانية لعلاقة الحب بين بطلها «جون» والفتاة «دانّي». وفي بحثه عن ماضيه، يغادر «داراغان» بطل رواية «لكي لا تضيع في الحيّ» (2014) شقته الكائنة في نهج كوستو في باريس إلى ضاحية «سان لو لافورايْ» حيث ربّته السيدة «آني استراند» التي صارت في ما بعد صديقته. وعلى هذا المنوال، لا تغادر شخصيات موديانو أماكن مقيمة في ذاكرته وأثيرة لديه على غرار نهج لوريستان بالدائرة 16، وشارعيْ هوسمان وأومانو، ونهج اللورد بيرون، ومربّع غرايسيفودان وغيرها. وهي أماكن لا تُفصح الروايات عن توصيفها بتفاصيلها المعلومة وإنما تكتفي منها بظلال صورها كما لو أنها أمكنة ذابلة في حلم قديم. لعلّ في قول فلوبير: «في بعض الأحيان نشعر بأننا عشنا حياتيْن، ليست الثانية سوى ذكرى للأولى» ما يؤطّر حديثنا عن طبيعة السرد في جلّ روايات موديانو؛ إذ لا نعدم وجود شبه كبير بين سيرة هذا الكاتب ومسيرة شخصياته التي تُنبئ بأنّ هناك علاقة وطيدة بين كتاباته وذاكرته عبر ما نلفي للذكريات فيها من حضور جليّ يحكم أحوال الفاعلين في متنها الحكائيّ وأقوالهم وأفعالهم، ويُضفي معنى مضافاً على معاني السرد فيها. وخلال هذه العلاقة تتواجه في روايات موديانو ذاكرتان: ذاكرة شخصية هي خزين من أحداث طفولته ومراهقته، وأخرى جماعية تفصيلها ذاكرة المكان وذاكرة القارئ. غير أن ذكريات الكاتب لا تفصح عن حضور لها حضور جليّ في السرد، وإنما تتخفّى وراء ترميزات وأحوال تستشعرها شخصيات رواياته وتشي بالكثير منها في فعلها السرديّ بعد أن يُدخل عليها الروائيّ تحويلات فنية ومضمونية تفارق فيها تلك الذكريات طبيعتها الأولى لتأخذ لها طبيعة أدبيّة هي في الأساس من صنع مخيِّلته، وحاملةٌ لمواقفه من وقائع ماضيه وحاضره. وبالتوصيف يجوز لنا القول إن أحوال شخصيات موديانو تتوزّع على زمنيْن: ماضٍ تكون فيه قد فقدت عطف أسرتها - مثل شخصية رافائيل بطل «ميدان النجمة»، وداراغان بطل «لكي لا تضيع في الحيّ»، وبطلات رواية «مجهولات» - وهي نالها من ذلك الإهمال شيء من التشرّد مثل «دانّي» صديقة جون بطل «عشب الليالي»، وشيء من البحث عن الذّات ضمن واقع مليء بالألغاز والخيبات يؤدّي بها دوماً إلى الإحساس بالضياع واللاجدوى. أما حاضر شخصيات موديانو فيكشف عن كونها شخصيات مأهولة بآلام الماضي، وميّالة إلى التخفّي عن الناس ومحبِّذة للوحدة، ولها إقبال على القراءة، وتمارس فنّ الكتابة الروائية. وهي صفات لا تختلف كثيراً عمّا نعرف من صفات موديانو نفسه. أما أزمنة روايات باتريك موديانو فاسترجاعية في غالبيتها إذ تنطلق من الحاضر وتتوجّه بأحداثها إلى الماضي، وتنصبّ في جلّها على البحث عن مجهول مّا قد يكون شخصية على غرار البحث عن «غي تورستال» في «لكي لا تضيع في الحي» وعن الفتاة «دورا» في «دورا بروديه»، وعن المرأة «لوكي» في «مقهى الشباب الضائع»، وقد يكون لغزاً على حدّ بحث بطل «عشب الليالي» عن السرّ الذي تخفيه عنه حبيبته «آنّي» المتصل بمقتل المهدي بن بركة، وبحث الفتيات الثلاث عن ذواتهن في «مجهولات»، وبحث «فيكتور» عن الحب والجاه في «البيت الحزين» وغير هذا كثير من الأمثلة. والظاهر أن قادح ذاك البحث إما هو خبر في صحيفة يومية يحكي عن اختفاء فتاة صغيرة كما هي حال رواية «دورا بروديه»، وإمّا العثور على دفتر مذكِّرات فيه اسم شخص يتعلّق به أمر مّا ويتكفّل البطل بمهمة البحث عنه مثلما جاء في رواية «لكي لا تضيع في الحيّ» أو بانتشار خبر غياب امرأة عن بيتها على حدّ ما نهض عليه السرد في رواية «مقهى الشباب الضائع».