ما يميّز الكتابة الروائية لدى الفرنسي باتريك موديانو( 1945) هو عدم اطمئنانه فيها إلى الحقائق التي تُفصح عنها منظومات الواقع ويتم إشهارها مثلما تُشهر المعلَّبات، وإنعامه النظر في ما يتخفّى وراءها من مسكوت عنه يسكن الهامش والمنسيّ من ذاكرة حضارة غربية لا تزال تصرّ على عدم كشف أعطابها الروحية والعلائقية. وهو الأمر الذي جعل من رواياته الثلاثين على غرار روايته الأخيرة «كيلا تضيع في الحَيِّ» (Pour que tu ne te perdes pas dans le quartier)، سيرةً ثقافية ونفسية لمجموعة من المنسيات القِيَمية والتاريخية والمكانية، وإدانة لفوضى العصر وكثرة أسباب ضياع الفرد فيه. حكاية تُشبه الحُلم تنفتح رواية موديانو الجديدة «كيلا تضيع في الحيّ» الصادرة حديثاً عن دار غاليمار، بعتبة نصيّة هي عبارة عن شاهد تخيّره الكاتب من رواية «حياة هنري برولارد» لستاندال وفيه نقرأ: «لا أستطيع إعطاء حقائق واضحة عن الأحداث، وإنما كل ما أستطيعه هو تبيُّن ظلالها»، وهو شاهد دالٌّ تتكئ عليه الرواية في بناء أحداثها وشخوصها وأمكنتها؛ فنحن لا نتبيّن من عنوانها مَن المتكلِّم، ولمَن يوجِّه خطابه، وما سياق ذاك الخطاب. كما ظلّت مغامرتها السرديّة مُلغِزةً لا تفصح عن نهاياتها، ومفتوحة على وفير التأويل حتى لكأنما كاتبُها يسعى إلى توريط القارئ في تخيّل خاتمة شخصية لكل نواة من نواتاتها الحَدَثية الكثيرة وغير المكتملة. بطل الرواية، «جان داراغان»، رجل ستّينيّ يُقيم في شقة في عمارة واقعة في نهج كوستو في إحدى ضواحي باريس، لا نعرف عنه سوى كونه روائيّاً أصدر أوّل عمل له بعنوان «سواد الصيف»، وهو بلا عائلة، كانت اعتنت به في طفولته امرأة تسمّى «آني استراند» وقد أسكنته في بيتها في ضاحية «سان لو لافورايْ». وهو إلى ذلك مغرم بقراءة كتابات البيولوجي جورج بوفُّون (ت 1788)، ويميل إلى الوحدة والتستُّر، ويعيش حالات مكتظّة بالقلق والحزن والإحساس باللاّجدوى والنسيان. في ظهيرة قائظة لأحد أيام أيلول (سبتمبر) من عام 2010، يرنّ هاتفه الخلويّ، فلا يهتمّ به كعادته، وبتواتر رنين الهاتف يُجيب عن المكالمة، فإذا بشخص يعلمه بأنه عثر في محطة القطار في مدينة ليون على دفتر مفكرة كان أضاعه «داراغان» منذ مدة طويلة وفيه أرقام هواتف وعناوين قديمة واسم «غي تورستال» وهو شخص يهتم صاحب المكالمة بأن يتتبعه لشأن مّا. وأمام هذا الأمر، يضرب «داراغان» موعداً معه، ثم يلتقي به، فإذا هو شخص مألوف الملامح يسمّى «جيل أوطولوني» تصحبه في مهمّته البحثية صديقته «شنتال غريباي». غير أنّ «داراغان» تفطّن إلى أن المبحوث عنه «غي تورستال» ليس إلا شخصية من شخصيات روايته الأولى «سواد الصيف» التي ذكر فيها أسماء أصدقاء طفولته، وفي هذه اللحظة، وأمام حرص الزائرَيْن على ضرورة تمكينهما من عنوان هذا المبحوث عنه وممارستهما على «داراغان» ضعوطاً وتهديدات، تكشف الرواية عن رغبتها في توريط بطلها في مهمّة هذا البحث، وجعله يواجه ماضيه، لا بل وجعل ماضيه يدلف إلى حاضره ويستشري فيه بكلّ ما فيه، فيؤرّقه حيناً وينعشه بصُور الحُبّ حينا آخر. يسافر بطل رواية باتريك موديانو إلى مكان طفولته في ضاحية «سان لو لافورايْ»، ويظلّ يطرق أبواب البيوت باباً باباً بحثاً عن المُسمّى «غي تورستال»، وهو واحد من رفاق طفولته عندما كان يسكن في بيت «آني استراند»، وفي الأصل كان يطرق أبواب ماضيه الذي بدأ يتكشّف له رويداً رويداً ولكن في شكل ضبابي. فقد عرف أن مربيته «آني استراند» صارت في مراهقته صديقة له، وعاش معها قصة حبّ، وقد حملته معها في سفرة لها إلى إحدى مدن إيطاليا وأمدّته بورقة فيها عنوان شقّتهما في حيّ «بيغيل» قائلة له احتفظ بها: «كيلا تضيع في الحَيِّ»، وهنا نكتشف سياق عنوان الرواية. ثم تذكَّرَ «داراغان» أثراً من آثار خيانة هذه المرأة له مع خليلٍ لها كانت تزوره بين الفينة والأخرى، وعرف أنها لم تكن حبيبته، وإنما هي حبيبة غيره، ويذكر أنه كان وصفها بكونها نصف ملاك ونصف شيطان: تُحبّ وتخون. وفي حديثه مع أحد أطباء الحي الذي ذكّره ببعض الناس الذين كان يعرفهم، ينفتح خزين ذاكرة «داراغان» على مصراعيه ليكتشف فيه أنه ظلّ شريداً في شوارع باريس وضواحيها سنوات الغليان السياسي في فرنسا إثر الحرب العالمية الأولى بعد أن تخلت عنه عائلته لأسباب لم تذكرها الرواية، حيث تعتعه الليل مع غريبي الأطوار من المجرمين، والعسكريّين، والمعارضين السياسيّين الذين كانوا يتخفّون من البوليس حيناً ويهاجمونه حيناً آخر. ولأن التذكّر يفتح أبواب الألم، وينكأ الجراح الغائرة، تقف الرواية ببطلها، ومن ورائه قارئها، على رؤوس أحداث كان عاشها، لكنها لا تروم لها تفصيلاً، ولا تحرص على أن تتساءل عن مصائر شخصياتها الأخرى عدا البطل و «آني استراند»، بل هي تكتفي بإثارة السؤال فقط؛ السؤال عن سبب ضمور أزمنة وظهور أخرى، وعن إمكانية القول إنّ «دارغان» هو ذاته «غي تورستال» المفتَّش عنه، وعن أنّ في سيرة الكاتب باتريك موديانو ما يشبه سيرة بطل روايته من حيث تخلّي عائلته عنه، وعيشه حياة الوحدة، وغرامه بالكتابة الروائية، وتعلّقه بالذاكرة.