لا نعرف كثيراً عن حياة «النظّام»، ولا نعرف شيئاً عن أبويه، لأنه لم ينل من عناية المترجمين ما ناله غيره من المتكلمين والمفكرين في الإسلام ولا بد لمن يريد معرفة تاريخ حياته وظروفها من التنقيب عن ذلك في ثنايا المؤلفات الباقية لبعض تلاميذه، وأكبرهم الجاحظ، وفي أخبار الخلفاء الذين نبغ في عهدهم، وهذا ما فعله الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريده في كتابه الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب تحت عنوان: «إبراهيم بن سيار النظام وآراؤه الكلامية الفلسفية». يرى أبوريدة أن ظهور النظّام كان حداً فاصلاً في تاريخ الاعتزال وفي تاريخ الإسلام؛ فقد أنهج للمعتزلة سبلاً، وفتق لهم أموراً عمتهم بها المنفعة وشملتهم بها النعمة كما يقول الجاحظ؛ وكذلك وجه النظّام الكلام توجيهاً جديداً في مسائله وطريقته، وذلك لإمعانه في قراءة كتب الفلاسفة، وإلمامه بالثقافات الأجنبية على تنوعها، وبما عُرف عنه من التعمق والغوص. ويحكي الشوكاني عن النظّام أنه ذهب إلى أن الإجماع ليس بحجة، وإنما الحجة في مُستنده، إن ظهر لنا، وإن لم يظهر نُقدّر للإجماع دليلاً تقوم به الحجة. ويرى الإمام الغزالي أن ظهور النظّام كان نقطة لها شأن عظيم في تاريخ الإجماع؛ ولعل من جاء بعد النظّام كالظاهرية تابعوه في القول باستحالة إمكان الإجماع عادة، كما تابعوه في نفي القياس؛ هذا إلى أن النظّام ألّف كتاباً يسمى «النُّكت»، أثبت فيه أن الإجماع ليس بحجة. والظاهر أن النظّام لم ينكر حجيّة إجماع الأمة فيما نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحكام أو في إجماعها على بعض الأمور كالإمامة، ويؤخذ هذا مما حكاه الأشعري في أمر الأخبار، ومما حكاه الخياط، ومما ذكره النوبتخي للنظّام في الإمامة. أما الإجماع الذي ربما يكون النظّام قد ناقش في حجيته فهو الذي غرضه وضع حد شرعي من غير استناد إلى نص؛ ويؤخذ هذا من كلام ابن شاكر وبعض مؤرخي علم الأصول. ويؤكد أبو ريده أن الذي دعا النظّام إلى معارضة الإجماع هو تعمقه ونزعته الواقعية ورغبته في أن تبني الأحكام على يقين لا يتطرق إليه شك من جهة، ثم صعوبة تطبيق الإجماع عملياً من جهة أخرى. أما القياس فأمره أكثر غموضاً من الإجماع؛ فالجاحظ يحكي عن النظّام أنه كان جيد القياس، بل يعيب عليه تسرعه في القياس، ويقيس على الخاطر والعارض والسابق الذي لا يوثق بمثله؛ ونجد فوق هذا أن النظام في مباحثه الطبيعية يستعمل القياس في إبطال مذاهب خصومه، وذلك بأن يقيس عليها حتى يبطلها ببطلان ما يلزم عنها؛ وهو يرمي خصومه بأنهم لا يعرفون القياس، ولا يُعطونه حقه. وقد ورد عن النظّام تفسيقه خائن مائتي درهم فما فوقها، وأنه أرجع ذلك إلى نصاب الزكاة، فهو يقيس نصاب المال الذي يجوز التفسيق فيه على ناب الزكاة قياساً لا يُنكر، أو يقيس ما يوجب التفسيق على ما يستحق به آكل مال اليتيم. ويحدثنا ابن قتيبة أن النظّام ذكر قول عمر بن الخطاب: «لو كان هذا الدين بالقياس لكان باطن الخُف أولى بالمسح من ظاهره»... فالنظّام ينكر القياس الذي غايته وضع حكم بالرأي من غير مُستند. ويرى أبو ريدة أن كثيراً مما نُقل عن النظام في أمر الإجماع والقياس غير صحيح؛ ويظهر أن النظّام كان له كلام في من أفتى بالرأي من الصحابة من غير مستند، فرماه خصومه لذلك بأنه ينكر القياس جملة؛ وإذن فمعارضة النظام للإفتاء بالرأي هي من نزعات النظّام النقدية، وهي مما يتفق مع الحرية الفكرية المعروفة عنه. ونلاحظ في آرائه أثر العقل الفلسفي الناقد، فهو لا يقنع بأن تقرر له الأمور تقريراً، بل يناقشها ويمحصها، فيقبل منها ويرفض. وتتجلى نزعة العقل العلمي عند النظّام في أنه كان يأخذ بالمنهج التجريبي في تعرُّف بعض الحقائق؛ فقد حكى الجاحظ أن النظّام اشترك مع الأمير محمد بن علي بن سليمان الهاشمي في إجراء تجارب على الحيوان، منها تجربة لمعرفة أثر الخمر في مختلف أنواعه، فسقوها للحيوانات العظيمة الجثة كالإبل والخيل، وسقوها للشاء والظباء والكلاب، بل سقوها للنسور، واستعانوا بحواة حتى صبوها في أفواه الأفاعي، وشاهدوا أثر الخمر في هذه الحيوانات كلها. يحدثنا النظّام أنه شهد أكثر هذه التجربة، ثم يقول إنه لم يجد في جميع الحيوانات أملح سكراً من الظبي، ولولا أنه من الترفُّه لكنت لا يزال عندي الظبي، حتى أُسكره وأرى طرائف ما يكون منه. وكان النظّام من أكبر العاملين على نشر الثقافة الفلسفية في المجامع، وهو بتعمقه وتعرضه للبحث في أمور دقيقة أدخل كثيراً من الدقة والضبط في الأفكار؛ هذا إلى ما كان لمجادلاته ولمناظراته الكثيرة من أثر في وضع أصول الجدل والمناظرة؛ كذلك قام بثورة على التقليد، وقرر حق العقل في الأحكام، وأمعن في قراءة كتب الفلاسفة والانتفاع بها، فكان من الذين مهدوا السبيل للفلسفة الإسلامية التي ازدهرت في القرنين الثالث والرابع. وتخرج النظّام على يد أستاذ من أكبر علماء المعتزلة وهو أبو الهزيل العلاّف الذي قرأ كتب الفلاسفة وانتهج مناهجهم، وانتصب للرد على المخالفين على اختلاف مذاهبهم، وورث النظّام عن أستاذه هذه النزعات كلها وكانت المناظرات بينهما لا تنقطع، وقيل للنظّام: «أتناظر أبا الهزيل؟ قال: نعم وأطرح عليه رُخاً من عقلي»، وكثيراً ما كان يظهر التلميذ على أستاذه، وما أشبه النظّام بأرسطو إزاء أستاذه أفلاطون، وربما كان أرسطو أكثر احتراماً لمقام أستاذه، وأقل عنفاً من النظّام؛ فقد حُكي أن أبا الهزيل كان من شدة وطأة النظّام عليه وقدرته على قهره يراوغ متمارضاً كالذي رواه الجاحظ من أنه قيل لأبي الهزيل: «إنك إذا راوغت واعتللت، وأنت تكلم النظّام، فأحسن حالاتك أن يشك الناس فيك وفيه، قال: خمسون شكاً خيرُ من يقين واحد».