نظم القيم المؤسسة للثقافة العربية والاسلامية ونقد العقل الاخلاقي العربي وتحليله تحليلاً موضوعياً نقدياً هو موضوع كتاب محمد عابد الجابري وهمّه. بادئ ذي بدء يوضح لنا الكاتب سبب اختياره لمصطلحات دراسته، فقد استعمل كلمة نظم (جمع نظام) بدلاً من كلمة منظومات (جمع منظومة) لأنه يرى ان كلمة منظومة وترجمتها من اللفظ الاجنبي system انما تعني مجموعة من العناصر تقوم بينها علاقات معينة يستمد منها كل عنصر هويته ووظيفته، اما كلمة (نظام) فهي ترجمة للفظ الاجنبي order وهي تعني الشيء نفسه ولكن مع وضوح فكرة الترتيب والتتابع. أي أن كلمة نظم هنا لها معنى أعم من وجهة نظر الكاتب من لفظ منظومة ولهذا استخدم كلمة نظم، اذ ان القيم في كل ثقافة تشكل، ليس فقط منظومة، أو منظومات، بل هي ايضاً نظام بمعنى الترتيب. وبمعنى اكثر ايضاحاً يؤكد لنا الكاتب ان القيم في كل ثقافة ليست كلها في مستوى واحد بل هناك قيم اساسية أو رئيسة تتفرع منها قيم أخرى أدنى منها مرتبة، كما ان هناك قيمة مركزية تنتظم حولها كل القيم. وليس هذا فحسب، بل يؤكد لنا الكاتب أنه تعمد استعمال عبارة (نظم) بالجمع قصداً حيث ان الثقافة العربية عرفت نظماً عدة من القيم وليس نظاماً واحداً، وهذا ما سيبرهن عليه بالفعل بين ثنايا الكتاب وما سنوضحه نحن بدورنا في هذا المقام. العقل الاخلاقي العربي عقل متعدد في تكوينه ولكنه واحد في بنيته، وهنا يحدد لنا الكاتب خمسة موروثات كونت العقل الاخلاقي العربي تكويناً رئيساً، وهذه الموروثات الخمسة هي: الموروث الفارسي، الموروث اليوناني، الموروث الصوفي، الموروث العربي الخالص والموروث الاسلامي الخالص. ونكتفي بتناول موروثين فقط من الموروثات الخمسة في هذا المقام وهما الموروث الفارسي والموروث اليوناني وايضاح ما قصده الدكتور محمد عابد الجابري بكل موروث منهما على حدة وكيف ساهم هذا الموروث في تشكيل العقل الاخلاقي العربي. ولكن قبل أن نبرح هذه الجزئية يجب ان نسطر هنا ما ساقه المؤلف من ان كل موروث من هذه الموروثات الخمسة التي شكلت العقل الاخلاقي العربي لم يسر على حدة، بل حدث تلاق بينها وهنا يقول المؤلف: «بطبيعة الحال كان لا بد لهذه النظم وهي تتزاحم على مسرح الثقافة العربية من ان يحصل بينها احتكاك وتداخل وتلاقح ومنافسة وصراع... الخ، وبالتالي كان لا بد من بروز هيمنة هذا النظام من القيم الخاص لهذا الموروث أو ذاك، في هذا العصر أو ذاك، فينتج من ذلك ما نسميه (المحصلة) التي تبرز كمثل للثقافة العربية الواحدة وبالتالي ك (عقل اخلاقي عربي). والحق أن الأمر يتعلق هنا بمحصلة اعتبارية فقط virtuelle، اما في الواقع المعاش فالتنافس والصراع بين نظام القيم لا يكاد يهدأ حتى يستيقظ في جميع المجتمعات». ويصل الكاتب الى نقطة يقول فيها: «ان المجتمع العربي كان طوال تاريخه المديد – وما زال حتى اليوم – مجتمعاً قلقاً على مستوى القيم على الأقل... ولهذا كان هذا الكتاب... كتابة تاريخ لم يكتب بعد... تاريخ الفكر الاخلاقي في الثقافة العربية». الموروث الفارسي أو اخلاق الطاعة كانت الطاعة هي أولى القيم التي رسخها الموروث الفارسي في مساهمته في تكوين العقل الاخلاقي العربي. وكان (الترسل) هو اول تأليف في الاخلاق. والسؤال الآن: ما هو المقصود بالترسل وكيف ساهم هذا الترسل في تشكيل العقل الاخلاقي العربي؟ بدأ الموروث الفارسي يقدم نفسه داخل الثقافة العربية والاسلامية عبر الترجمة والتأليف كخطاب كلي وعام في القيم والاخلاق وذلك في اواخر العصر الأموي... إذ شهد هذا العصر ظاهرة أدبية جديدة كان لها شأن هي الأخرى في تكريس قيم بعينها، وهذه الظاهرة هي ظاهرة الترسل، اذ كانت رسائل ملوك بني أمية، بخاصة المتأخرين منهم، من أهم الوسائل التي استعملوها في نشر القيم التي كانت تخدم قيم الطاعة... والترسل صيغة تفيد معنى التكلف، فإذا كان موضوع رسالة هو اصدار أمر، فوظيفة الترسل هي صوغ ذلك الامر في نص بلاغي تتزاحم فيه الاستشهادات بالقرآن الكريم والحديث في قوالب لغوية يراد لها أن تقوم مقام التبرير الديني والبرهان العقلي. ولا بد من الاشارة هنا الى (الكتّاب) الذين اسسوا هذا النوع من الأدب، وكان يطلق على الواحد منهم اسم (المؤدب)، وهذا المؤدب ينتقل من بلد الى آخر لتأديب ابناء الطبقة الارستقراطية، وقد غادر بعضهم هذه المهنة الى مهن أخرى أفضل كسباً وأرفع قدراً فأصبح منهم الولاة الذي يمثلون الخليفة كالحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان في الأصل معلماً... أما أشهر هؤلاء المترسلين فهو عبدالحميد الكاتب وهو يعد المؤسس الفعلي لخطاب الترسل. وترجع أهمية الترسل الى أنه كان وسيلة لاذاعة القيم التي تريد السلطة نشرها وتكريسها في نفوس العامة، حيث تقرأ الرسائل نيابة عن الأمير اذا كانت موجهة الى الرعايا والموظفين أو رجال الدولة. والفرق بين الخطابة والترسل هو أن الخطابة تلجأ الى توظيف ضمير المخاطب، بينما تلجأ الرسائل الى توظيف ضمير الغائب، والكاتب الذي يكتب الرسائل نيابة عن الأمير يستعمل غياب هذا الاخير لفرض حضوره وهيمنته على نفوس المتلقين. ومكمن السلطة في هذا الخطاب انه يتركز حول قيمة محورية هي (الطاعة). وهنا يبرز السؤال البديهي: لماذا كان الموروث الفارسي هو المدخل الطبيعي الى ترسيخ اخلاق الطاعة في كينونة العقل الاخلاقي العربي؟ وتتجلى الاجابة في ان الموروث الفارسي هو ترجمان لحال القيم الكسروية التي ترفع الملوك الى مصاف الآلهة. وكان كسرى انو شروان، أي صاحب «النفس الخالدة» هو آخر ملوك الفرس وينسب اليه قوله: «أفضل اخلاق العبيد الاستقامة على الطاعة وأن الملك اولى بالعبيد من أنفسهم). وتولى ابن المقنع نقل التراث الفارسي الى العربية، وكانت الدولة الاموية كما ذكرنا في امسّ الحاجة الى هذه القيم الكسروية التي ترسخ لفكرة الطاعة، ولم يكن هناك افضل من الموروث الفارسي الذي دشنه ملك الفرس (كسرى) لترسيخ هذا المفهوم في نفوس العامة، وتولى ابن المقنع نقله الى بني العرب، والذي يتجسد كما ذكرنا في ترسيخ فكرة الطاعة وهي احدى اللبنات التي شكلت الفكر والعقل الاخلاقي العربي في تاريخه الطويل. الموروث اليوناني هناك ثلاث مرجعيات يعود اليها كل ما نقل الى الثقافة العربية من الموروث اليوناني وتم به تشكيل جزء من العقل الاخلاقي العربي في ما يتعلق بالاخلاق والقيم. والمرجعيات الثلاث هي: افلاطون وأرسطو وجالينوس. ومن دون هذه المرجعيات لن تكون هناك قابلية لفهم مدى تأثير الموروث اليوناني في تشكيل العقل الاخلاقي العربي. وهنا يجب أن نميز في الفكر الاخلاقي العربي ذي الاصول اليونانية بين نزعات ثلاث: النزعة الطبية العلمية (مرجعيتها جالينوس)، النزعة الفلسفية (مرجعيتها أفلاطون وأرسطو) والنزعة التلفيقية وهي التي تقتبس من المرجعيات الثلاث. وحول هذه النزعات الثلاث يدور الحديث مع الكاتب حول حضور الموروث اليوناني في الفكر الأخلاقي العربي. أولاً: النزعة الطبية العلمية يعد كتاب «تهذيب الأخلاق» الكتاب الأم في مجال بحثنا حول تأثير الموروث اليوناني في تكوين الفكر الأخلاقي العربي. والواقع انه لم يكن هناك إجماع على نسب الكتاب الى مؤلف معين، بل تعدت الأنساب الى المؤلفين. فقد نسب الكتاب أول مرة منذ عام 1866 الى ابي زكريا يحيى بن عدي ونسب أيضاً الى المتصوف الشهير محيي الدين بن عربي ثم نسب الى الجاحظ، ويرجح الدكتور محمد عابد الجابري هنا نسب الكتاب الى العالم الرياضي الفيزيائي الكبير ابن الهيثم، معتمداً في ذلك على المخطوط الذي نشره الدكتور عبدالرحمن بدوي وهو المخطوط الرقم 1367 في كتبخانة مجلس شورى ملي طهران ويحمل عنوان «مقالة في الأخلاق للحسن بن الحسن بن الهيثم»، ولهذا يرجح الدكتور الجابري نسب المخطوطة الى ابن الهيثم. هذا عن الخلاف حول الكتاب ونسبه، أما من حيث المضمون، فالكتاب موضوع بحثنا (ونقصد هنا كتاب «تهذيب الأخلاق») ينتمي بوصفه كتاباً في الأخلاق الى مدرسة جالينوس، فهو يتبنى تعريف جالينوس للأخلاق التي يبنيها على قوى النفس الثلاث (الشهوانية والغضبية والناطقة). وهنا يؤكد الجابري ان ابن الهيثم كان ذا صلة قوية بكتب جالينوس التي حقق كثيراً منها على عكس يحيى بن عدي، ولهذا يرجع الجابري نسب الكتاب الى الحسن بن الهيثم. ومن هنا كان هذا الكتاب هو المدخل الى النزعة العلمية الطبية في تأثير الموروث اليوناني في العقل الأخلاقي العربي حيث ان مؤلف هذا الكتاب «تهذيب الأخلاق» لا يتعامل مع موضوعه من موقع الفيلسوف الذي يعنى بالمعرفة الأخلاقية بوصفها ثمرة لعلم بل من موقع الطبيب الذي يتجه باهتمامه نحو الحفاظ على الصحة وإزالة المرض وتحديد نظام يضمن الصحة النفسية للإنسان. فالموضوع إذاً يتعلق بطب الأخلاق إن جاز التعبير. وموضوع أو مضمون هذا الكتاب المرجع يدور حول الأخلاق عند الإنسان حيث يقول الكتاب «ان الخلق هو حال للنفس بها يفعل الإنسان أفعاله بلا روية أو اختيار (وهذا هو تعريف جالينوس للأخلاق) والأخلاق في الإنسان ليست واحدة والعلة الموجبة لاختلاف الأخلاق هي اختلاف قوى النفس وهي ثلاث كما ذكر الكتاب: الشهوانية والغضبية والعاقلة». اما القوى الشهوانية فهي مصدر كل الرذائل والقوى الغضبية يشترك فيها الإنسان والحيوان وهي أقوى من النفس الشهوانية وأضر بصاحبها إذا ملكته. وأما النفس الناطقة (العاقلة) فبها يتميز الإنسان عن الحيوان ومن فضائلها اكتساب العلوم والآداب ومن رذائلها الخبث والخديعة والرياء. والسؤال: كيف لعب هذا الكتاب دوراً في تكوين العقل الأخلاقي العربي؟ رسخ هذا الكتاب الدليل للتعامل مع قوى النفس الثلاث وبين كيف يمكن ترويض النفوس وتهذيب الأخلاق. فالطريق الى تذليل القوة الشهوانية ان يتذكر الإنسان وقت شهواته انه يريد تذليل هذه الشهوات وأن يكثر من مجالس النساك والزهاد وأن يتجنب السكر وألاّ يبالغ في الطعام. والطريق الى قمع النفس الغضبية ان يصرف الإنسان همه عن مصاحبة السفهاء وأن يتجنب حمل السلاح وأن يسأل نفسه عند الغضب عن الجاني وعما يستحق من عقوبة. اما تهذيب النفس الناطقة (العاقلة) فهو النظر في كتب الأخلاق والسياسة ومخالطة العلماء. وترجع أهمية هذه النزعة الطبية العلمية في تكوين العقل الأخلاقي العربي الى خلوها من القيم الكسروية والآداب السلطانية، فهي نزعة إنسانية حلت القيم الإنسانية فيها محل القيم الكسروية فكانت نعم المحل. ثانياً: النزعة الفلسفية يرجع الفضل في دخول هذه النزعة الى تكوين العقل الأخلاقي العربي الى الفارابي الذي نشر المنطق في الثقافة العربية، حتى انه لقّب بالمعلم الثاني. فالمعلم الأول هو أرسطو وكان الفارابي من الفلاسفة العرب الذين اهتموا اهتماماً بالغاً بالسياسة والأخلاق في إطار الجمع بين أرسطو وأفلاطون والدمج بين الدين والفلسفة. ونظام القيم الذي رسخه الفارابي ليس أفلاطونياً محضاً ولا أرسطياً محضاً بل هو نظام يجمع بينهما. استهل الفارابي كتابه «التنبيه على تحصيل السعادة» بأن المقصود بالسعادة هنا هو السعادة الحقيقية التي هي نهاية الكمال الإنساني. وننال السعادة عندما تكون أفعالنا وعوارض أنفسنا طوعاً واختياراً والأخلاق كلها مكتسبة بالاعتياد. ومتى كانت النفس في حال توسط حدثت لها السعادة. ويؤكد الفارابي آراء أرسطو من ان الفضيلة هي الوسط بين رذيلتين وكلما كان التوسط كانت الفضائل، فالشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والسخاء وسط بين التقتير والتبذير. وهكذا... و»المدينة الفاضلة» عند الفارابي تكون فاضلة عندما تكون على مثال نظام الكون وترتيبه. ومن هنا كان التأثير اليوناني في نظم القيم في العقل الأخلاقي العربي، فكلما كان لليونان تصور للمدينة الفاضلة كان ايضاً للفارابي تصوره... فرئيس المدينة الفاضلة عند الفارابي ممكن ان يكون نبياً أو فيلسوفاً ولكنه ليس خليفة الله في الأرض. وحضرت النزعة الفلسفية ايضاً وبقوة في هذا المقام عند ابن رشد وتأثيره في تكوين العقل الأخلاقي العربي. فهو ترجم جمهورية أفلاطون. ولعبت هذه الترجمة دوراً في تأسيس جمهورية العقل الأخلاقي العربي حيث أثر ابن رشد ونزعته الفلسفية في الثقافة العربية، فللمرة الأولى يتم التعامل في الثقافة العربية مع المضمون السياسي لكتاب «الجمهورية» كما هو وبصورة مباشرة من دون الدخول في مواربات سياسية لاتقاء شر السلاطين. بقي ابن ارشد مخلصاً لروح نص «الجمهورية» وطابعه التحليل النقدي من دون أي التواء، وللمرة الأولى في تاريخ الفكر الأخلاقي العربي تواجه السياسة بخطاب صريح ويتم نقد الاستبداد بمفاهيم مباشرة وبجرأة وبإعطاء امثلة من التاريخ العربي. والأهم من كل هذا اننا امام خطاب أخلاقي متحرر من القيم الكسروية ومن أخلاق الطاعة ومتحرر من النزعة الصوفية الهاربة من المقاومة الإيجابية الى المقاومة السلبية. وبهذا يدشن ابن رشد النزعة الفلسفية في تكوين العقل الأخلاقي العربي بما ترجمه من كتاب «الجمهورية» وبما دفعه هو من ثمن نعرفه جميعاً وما زلنا نكتوي بشظاياه حتى الآن. اما النزعة الأخيرة التي شكلت العقل الأخلاقي العربي في تأثير الموروث اليوناني فيه، فهي النزعة التلفيقية. وخطورة هذه النزعة التلفيقية في تكوين العقل الأخلاقي العربي تكمن في انها تعرض القيم المتعارضة المتضادة في سياق واحد وتقدمها على انها القيم الأخلاقية والسياسية التي يجب العمل بها. ويذكر الجابري هنا، مثالاً، كتابات كل من العامري وتلميذه مسكويه وغيرهما من مثقفي المقابسات المعاصرين لهم او اللاحقين عليهم، وهو يقيس استحواذ قيم ثقافية معينة على ساحة الثقافة العربية منذ ذلك الوقت مما ساهم في تكوين بعض أخلاقيات العقل العربي العام. وإذا كانت هذه النزعة التلفيقية مقبولة في حقل مثل حقل الأدب على يد الجاحظ على سبيل المثال، لكنها تعد غير مقبولة في قيم السياسة والأخلاق، ذلك أن تلفيق العامري ومسكويه ليس في الأدب ولكن في الأخلاق ومجاله ليس مأدبة الأدب ولكن مأدبة القيم. والخطورة ايضاً ان اصحاب المقابسات هم أصحاب عقل يقتطفون من هنا وهناك، والفلسفة عندهم جملة تعاريف وكلمات قصار بليغة، ولا مانع عندهم من الأخذ من احد المراجع ويأخذون ايضاً مما يناقضه. فالمقابسات تتجلى في انها فلسفة (من هنا وهناك) من دون تحقق أو تحقيق سواء كان المرجع محققاً أم منحولاً. والسؤال: ما هو الدور الذي لعبته المدرسة التلفيقية في تكوين العقل الأخلاقي العربي؟ وتتجسد الأجابة عن هذا السؤال في ان ما أذاعته في الساحة الثقافية العربية من أخلاق وقيم انطلاقاً من الجمع بين الموروث الفارسي ونظيره الموروث اليوناني ينطوي على مفارق خطيرة، ذلك ان نظام القيم في الموروث اليوناني، القيمة المركزية فيه هي الكمال الإنساني، أما في الموروث الفارسي فالقيمة المركزية فيه هي الطاعة، بمعنى آخر (الاستبداد)، وهنا تكمن خطورة هذا الاتجاه التلفيقي الذي يحاول ان يجمع بين النقيضين: الكمال والاستبداد... الكمال الناتج من السعادة والاستبداد الناتج من الطاعة. كما ذكرنا في اول المقام لا يتسع المجال لعرض الموروثات الخمسة التي شكلت النسق العام في العقل الأخلاقي العربي ولكننا أثرنا هنا عرض موروثين فقط من هذه الموروثات وهما الموروث الفارسي والموروث اليوناني باعتبارهما دخيلين على الثقافة العربية على عكس الموروث العربي الخالص والموروث الصوفي والموروث الإسلامي. إن (السفر) القيم الذي سطره الأستاذ الجابري يستحق الكثير من الدراسة، فنظم القيم في الثقافة العربية تحتاج اشد ما تحتاج الى كثير من الرصد والتحليل، بخاصة ان هذه القيم تتعرض من آن الى آخر لعوامل التعرية الحضارية من حسم وإضافة، ولكن من المؤكد ان هناك في تلافيف هذه النظم ثوابت راسخة، ولهذا فالمجتمعات العربية وبخاصة الأكاديميين المهتمين بالبحث والتقصي في كل ما يمت الى العقل العربي بأي صلة هم في أمسّ الحاجة الى الوصول الى هذه الثوابت الراسخة المؤسسة لنظم القيم في العقل العربي الجماعي... علّ وعسى يستطيعون ولو بشق الأنفس تحريك هذه الرواسخ حتى يستطيع غيرهم ولو في جيل لاحق تحريك هذا الواقع الآسن. هذا الواقع الذي يعد منتجاً طبيعياً ومنطقياً لنظم القيم السائدة في العقلية العربية وعقلها الأخلاقي العام.