من الثراء الفاحش في السودان، إلى الفقر والحاجة في لندن، وبين هذين العالمين يتحدد مصير نجوى بطلة رواية «مئذنة في ريجنت بارك» للكاتبة السودانية ليلى أبو العلا، الصادرة عن الدار العربية للعلوم -ناشرون، بترجمة بدر الدين حامد الهاشمي. ينقلب مصير نجوى مع الانقلاب السياسي الذي يحدث في السودان في الثمانينات من القرن الماضي، وتبدأ رحلة معاناة واكتشاف للذات حافلة بعذابات كثيرة، لا بد من حدوثها كضريبة لمعرفة النفس، كما لمعرفة الآخر. هكذا تمضي نجوى البنت السودانية المسلمة ذات العشرين ربيعاً، لتعيد تقويم حياتها الروحية، أو بعبارة أدق، الدينية، في محاولة منها للعثور عن سبب لمأساتها، وما لحق بحياتها من تحولات. تبدأ الرواية بعبارة: «لقد جارت عليّ الأيام، وانزلقتُ إلى مكان سقفه منخفض، ولا يسمح بكثير حركة». تكشف هذه الجملة أن الرواية ستنفتح على الماضي وستحكي حكايات أودت ببطلتها إلى هذا المصير. عاشت نجوى سنوات صباها في السودان، شابة مدللة لأسرة غنية مقربة من الرئيس، تُتابع دراستها الجامعية وتنتظر الزواج من الشخص المناسب لمكانتها الاجتماعية، لكن عالمها ينهار تماماً حين تتم الإطاحة بالحكم، ويُنفذ حكم الإعدام بوالدها، وتنتقل نجوى مع أمها وأخيها التوأم عمر إلى لندن، لتبدأ رحلة الغربة، فتاة وحيدة تواجه قدرها بعد موت الأم، وسجن الأخ بسبب تعاطيه المخدرات. تقع هذه الأحداث في الجزء الأول من الرواية في الخرطوم بين عامي 1984 و 1985، وفي هذا الجزء المكرس لكشف حياة نجوى وعائلتها قبل الانقلاب وبعده تكشف الكاتبة عن الواقع الحياتي لطبقة من المجتمع السوداني تتمتع بكل الامتيازات التي ينالها من يعيشون في دائرة السلطة؛ ثم تكشف أيضاً مأسوية زوال السلطة والمجد ليس على أهل الحكم فقط، بل على كل من عاشوا في كنفهم. تتألف الرواية من ستة أجزاء، تعنونها الكاتبة بالسنين، ولا يشترط التسلسل الزمني، بل هناك تقطيع و «فلاش باك» في السرد يسمح بالحديث مثلاً عما حدث للبطلة في 2003، ثم العودة لسنوات التسعينات. تنشغل الكاتبة إلى جانب تتبع حياة نجوى - وانحدار مصيرها من فتاة غنية ومدللة إلى خادمة تعمل عند الأسر العربية - بالحديث عن فئة من العرب المهاجرين، وطبيعة علاقاتهم في الغربة، والأهم من هذا الجانب الديني الذي يبدو في حياتهم مثل منارة تضيء لهم الطريق. ترتاد نجوى الجامع وتبحث عن طوق نجاة ينتشل روحها من الغرق، تواصل حضور دروس الدين، وتعيد تقويم حالتها الدينية، وتصل إلى نتيجة مفادها أن نكبة عائلتها حصلت بسبب عزوفهم عن الصلاة. هم عائلة لم تعرف من الدين إلا التعاليم الظاهرة، لم تمارسه بحق، لذا تركز نجوى على الالتزام بالصلاة، والعبادة، وتتحول من فتاة ترتدي آخر صيحات الموضة، إلى أخرى تضع الحجاب؛ وتحرص على أداء فروضها الدينية كلها. بيد أن هذا التحول يتزامن مع فشل علاقتها العاطفية مع أنور، زميلها في جامعة الخرطوم الذي عادت والتقت به في لندن. يمثل أنور شخصية المثقف الانتهازي، فهو لا يتردد في التخلي عن نجوى بعد إقامة علاقة معها، وبعد أن ساعدته مادياً ليكمل دراسة الدكتوراه. وفي لحظة صدق تقرر نجوى إنهاء كل ما يربطها به، وتتجه إلى الجامع لتصلّي وتطلب المغفرة عن خطيئة علاقتها به. هوية المكان إلى جانب عالم نجوى المتشابك، تحضر هوية «الجامع» كمكان تلتقي فيه فئات اجتماعية من طبقات مختلفة. وفي هذا المكان تتمكن نجوى من الحصول على وظيفة خادمة عند لمياء التي تعد أطروحة الدكتوراه في لندن. تقوم نجوى برعاية مي طفلة لمياء، وتنظيف البيت والطهو، ووسط هذه الأسرة الصغيرة تتعرف إلى تامر شقيق لمياء، شاب متدين يصغرها بتسعة عشر عاماً، فهي شارفت على الأربعين. تنساق نجوى في علاقة مع تامر تؤدي إلى غضب العائلة، وخسارتها وظيفتها، ثم تقاضيها مبلغاً من المال مقابل أن تبتعد عنه، حينها تقرر أن تستفيد من هذا المال لأداء فريضة الحج، بعد أن كادت تخسر كل شيء للمرة الثانية في حياتها. لا تسترسل ليلى أبو العلا في رصد قضايا الغربة، أو الانتماء، أو الفروق العرقية إلا في لمحات عابرة مثل الحادثة التي تعرضت لها نجوى في الباص حين ألقى مجموعة من الشباب المتطرف العصير على وجهها وملابسها؛ لأنها سمراء وترتدي الحجاب. ولا تغوص الرواية في عوالم لندن إلا في حديثها عن البرد وفي وصفها التنزه في الحدائق العامة، التي ترتادها نجوى مع تامر والطفلة مي، غير ذلك تبتعد الكاتبة عن «الكليشيهات» التقليدية في الكتابات التي تتناول المدن الشهيرة، فالعلاقة مع لندن تبدو بين شد وجذب، بين رفض وقبول، يحيث لا يبدو التمسك بالمكان بسبب علاقة خاصة معه، بقدر ما هو إلا رغبة في الحرية، ثم سرعان ما صارت هذه الرغبة مجرد هامش متوارٍ خلف ضباب المدينة الكثيف. اختارت الكاتبة لبطلتها الحديث بضمير المتكلم طوال الرواية (319 صفحة)، فلا يوجد راوٍ ولا أي أصوات روائية أخرى. وعلى رغم هذا، تبدو صيغة السرد محايدة ومتعثرة في البوح الحميم، فعلاقتها مع أنور وفشل هذه العلاقة لا يشغلان سوى مقاطع قليلة، مع أن هذه العلاقة تسببت في تدهور مصير نجوى وخسارتها أموالها بعد أن قدمتها لأنور لمتابعة دراساته العليا. وفي بعض المواقف، بدت البطلة كما لو أنها متفرجة على حياتها أكثر مما هي متفاعلة معها. ولعل أكثر المواقف النفسية الزاخمة بالانفعالات هي في حديث نجوى عن علاقتها بالدين، وعن رغبتها في الحج، وفي حديثها عن طفولتها في السودان، لنقرأ: «كنت أتسمر واقفة وأنا أسمع تلاوة القرآن وأراقب حركات المصلّين البطيئة. كنت أحسدهم على شيء لا أملكه» (ص 156). أما ما طرأ على حياتها في لندن من إخفاقات فتبدو كما لو أنها مفصولة عن عالمها الداخلي، لذا ربما تبدو الأسئلة الدينية وليدة فرار من اللحظة الراهنة، أكثر مما هي اختيار ناضج. فالبطلة تكتفي بقبول ما يقال لها في دروس الدين، في استسلام تام ورضا، فهي لا تملك أسئلة غيبية، ولا تحاول إيجاد تفسيرات مختلفة، بل تتقبل ما يقوله تامر عن محاضرات عمرو خالد، وما تقوله مدرسة الدين في الجامع. ولعل ما يجدر التوقف أمامه في شخصية نجوى أن التحول الإجباري الذي طرأ عليها من الغنى إلى الفقر، يقابله تحول اختياري من عدم التدين إلى التدين. لكنّ هذا التحول الأخير بدا كلاسيكياً جداً. وفي مقابل هذا، تبدو شخصية نجوى أكثر ثراء وبعداً فنياً لو أنها مضت في البحث عن تساؤلاتها الخاصة في شكل منفرد، لكنها اختارت الانضمام الى الجموع بدلاً من الانتصار لفرديتها، بل إنها رفضت هويتها العربية والسودانية، مقابل تمسكها بهويتها كامرأة مسلمة فقط. وهذا ما تقوله لتامر في أحد النقاشات: «ليست لي هوية غير الإسلام»، كما لو أنها بهذه العبارة تحاول التخلص من وطن تسبب بنفيها، ومن ثقافة لم يعد يربطها بها إلا الدين.