الدكتور عبدالله الغذامي يقول عن الرواية السعودية (نارها حامية ).وفي ظل الاشتعال السردي الذي نرصده بتوالي الإصدارات الروائية المحلية تأتي المساءلة النقدية مهمة ومطلوبة. وفي سلسلة حوارات مع العديد من النقاد يسلطون الضوء على تلك التجارب الروائية المحلية . يأتي هذا الحديث ل (ثقافة اليوم) مع الناقدة نورة القحطاني التي تقدم رؤيتها النقدية المحايدة في تجربة الروائية ليلى الجهني: ؟ @ مابين الفردوس اليباب وجاهلية عشر سنوات. . هذا الزمن الطويل بين إصدار الروايتين. ما هي دلالاته. وفي ماذا تقدمت ليلى سرديا في جاهلية عن روايتها الأولى وفي ماذا تأخرت؟ - الانتظار الطويل لصدور الرواية الثانية للكاتبة بعد نجاح روايتها الأولى خلق أفق انتظار عند المتلقي لذا كان استقبال الرواية الثانية محاولة للتعرف على العالم السردي للكاتبة ومدى تقدمه عن نصها الأول، وهذا بالنسبة لي حافز يدفع القارئ للبحث عما وراء النص للكشف عن تيمات معينة تركز الكاتبة على تناولها في أعمالها وتقصيها في معالجتها لأحداث روايتها، وفي رأيي أن ليلى الجهني طرحت تجربة جيدة في "جاهلية" استكملت فيها بعض القضايا والأفكار التي طرحتها في "الفردوس اليباب" لكنها جاءت بأسلوب جيد وجديد وبلغة مختلفة متناسبة مع الحدث الرئيس الذي تعالجه الرواية، وكل نص منهما أثبت نجاحه في فترته الزمنية التي صدر فيها، أما بشأن دلالة البعد الزمني الفاصل بين صدور الروايتين فربما يعود لظروف الكاتبة وهي وحدها التي تستطيع تبرير هذا الانتظار. @ شخصية صبا في الفردوس اليباب لا تختلف كثيرا عن شخصية لين في جاهلية. . في تصوري أن ليلى تغترف من ذاتها وتلبس بطلات روايتها أبعادها النفسية وقناعتها الفكرية . وبالتالي نجد أن تلك الشخصيتين لهما ذات الأزمة وذات الملامح النفسية . إلى أي حد ترصدين النموذج النسائي في الروايتين؟ - شخصية "صبا" في الفردوس اليباب شخصية ضعيفة انهزامية خائفة لم تستطع مواجهة الناس فاختارت الانتحار، على رغم تقديمها لنا كفتاة مثقفة واعية تطرح قضايا سياسية واجتماعية إلا أنها عجزت عن مقاومة قهر الرجل وظلمه، فطغت لغة الشكوى والبكائية على حديثها عن قضيتها، أما شخصية "لين" في جاهلية فهي مختلفة عنها ولا تتقاطع معها إلا في المستوى الفكري والثقافي،وهنا يظهر كما قلت تأثير الكاتبة على شخصياتها حيث إنها تعكس من خلالهما قناعاتها الفكرية واتجاهاتها الخاصة، وهذا ينطبق على كل كاتب فهو لا يستطيع الانسلاخ من ذاته وقناعاته التي تشكل فكره وتظهر في كتاباته، ويبقى الإبداع في قدرته على نقل هذه القناعات بأسلوب فني راق بعيد عن تحويل الشخصيات إلى دمى يحركها، فكانت شخصية "لين" على النقيض من "صبا" فهي مثقفة ذات وعي عميق بذاتها ومنذ ولادتها ووالدها يتنبأ بأنها "لن تكون بشرًا عاديًا" لذا اختار لها اسمًا مميزا، ونشعر بقوة شخصيتها في مواجهة أخيها، عنيدة ترفض الخضوع لسلطته، تعتمد على نفسها ولا تحتاج إلى الآخرين، لذا لا أراها تشبهها في الملامح النفسية فصبا شخصية مستسلمة محطمة انهارت بعد اكتشافها خيانة حبها، أما لين فكانت قوية متماسكة واجهت مشكلتها بثبات وتحدي، وهذا الرسم المختلف لشخصية البطلة ربما دل على تطور النظرة إلى موقف المرأة عند الكاتبة فجاءت قوية على مستوى طرحها لأفكارها، وعلى مستوى الدفاع عن قضيتها بثقة عالية من دون اللجوء إلى البكائية المتوسلة. @ لاحظت أنها تدخل الرواية وهي ترفع الهم الاجتماعي . . فتغلو في هجاء المجتمع . وتحت غطاء السرد نجد أن الرواية مكتوبة بهدف تسجيل موقف اجتماعي وربما يطغى على جانب الكتابة من أجل الفن الروائي . . هذه الهجائية التي تحترفها ليلى ألا تخفف من منسوب الإبداع السردي في نصوصها الروائية . . ؟ . - عندما يمارس الهم الاجتماعي هيمنته على النص يحوله إلى خطاب يطرح من خلاله الكاتب رؤيته وأفكاره، ويتخذ منه وسيلة لطرح قضاياه وهذا ما أضعف بعض الروايات النسائية السعودية فنيًّا، واتفق معك في أن ليلى الجهني تغلو أحيانًا في هجاء المجتمع إنما كما قلت بحرفية تحافظ على تماسك الحبكة في النص، وتدفع الأحداث إلى التأزم بتقنيات فنية مناسبة، وتطرح رؤيتها في خطاب متزن وبلغة هادئة غير استفزازية، تفتح الجرح بمبضع جراح متمكن من أدواته الفنية، فتضمن وصول الفكرة إلى القارئ وتفاعله معها، ولمسنا ذلك الطرح في "جاهلية" فهي تناقش قضايا عديدة داخل مجتمع ظاهره مثالي وباطنه عنصري، والرواية تسعى إلى كشف كثير من مواضع الخلل في المجتمع، وأصبحنا حقيقة في حاجة إلى روايات تحدث الدهشة على مستوى الطرح الجريء وعلى مستوى الثورة على الشكل التقليدي للرواية، وإلا لن نضيف شيئًا إلى مسيرة هذا الفن سوى تراكم المزيد من الروايات الهشة على رفوف مكتباتنا. @ اللغة الرهيفة تمتاز بها ليلى. . هي ليست لغة شعرية خالصة وكذلك هي ليست لغة مباشرة . لكننا نرصد أن ليلى لا تسير على إيقاع واحد من اللغة وهذا ما حدث في جاهلية . فاللغة تتشكل على مستوى الحدث. برؤيتك كيف تجدين اللغة في نصوصها وهل هي كما يرى البعض لغتها ذات نكهة كاريزماتية تستر فنيًّا عيوب نصها؟ - تمتاز نصوص ليلى بتعدد الأصوات أي تعدد وجهات النظر؛ فتشد المتلقي على تتبع الرواية، كما أتاح لنا فرصة التعرف على مستويات مختلفة للغة الشخصيات، فلغة الفتاة المثقفة واعية رزينة تخاطب العقل، ولغة أخيها تنبئ عن جاهلية متأصلة فيه، كما أنها تلجأ إلى لغة الأعماق الحيوية ذات الصلة بالواقع والهم المعاش، وكانت الكاتبة في مقاطع كثيرة تستعرض ثقافتها على لسان بعض الشخصيات، فجاءت لغتها تميل إلى الشعرية في "الفردوس اليباب" لكنها بدت واقعية في "جاهلية" وهي لذلك جذبت شريحة كبيرة من القراء، ولكن يؤخذ على لغة الكاتبة في (الفردوس اليباب) بعض الارتباك اللغوي في لغة الحوار، فهو تارة بالعامية وتارة بالفصحى من دون مبرر فني، إذ لم تشكل جزءًا حيويًا من لغة الرواية، وليلى كاتبة تستثمر لغتها الجميلة في خدمة نصها حيث توظف إمكاناتها في تصوير الحدث والشخصية بتقنيات فنية متقنة توحي بوعي الذات الكاتبة بأدوات فنها، لذا فلست مع القائل إن لغتها تستر عيوب نصها، لأن اللغة الشعرية وحدها لا تنتج نصًا روائيًا ناجحًا، ولا تستر عيوب التكنيك الفني . @ (جدة كانت عند ليلى الجهني مدينة ملتبسة . فكان هناك تناقض كبير بين المكان والحدث عند ليلى . فجدة كانت مغلوطة تماماً ولم يكن هناك إحساس مدينة . وكانت هناك أحداث غريبة تحدث في الرواية . اشعر بأن ليلى كان تفكيرها في الكتابة عن القاهرة ولكن سمتها جدة . أنا لا اعرف امرأة في جدة تخرج من بيتها غاضبة وتنطلق في الشوارع وتنتظر نزول المطر!! ببساطة ليلى لوت عنق المكان ليستوعب أحداث الرواية) . هذه رؤية الدكتورة لمياء باعشن عن المكان في رواية الفردوس اليباب. إلى أي حد اختلافك أو اتفاقك مع تلك الرؤية؟ - لابد من التمييز بين المكان في العالم الخارجي والمكان في العالم الروائي، فالمكان في الرواية أياً كان شكله ليس هو المكان في الواقع الخارجي، ولو أشارت إليه الرواية، أو سمته بالاسم، ومن هنا تنشأ المفارقة، لأن التسمية محض وسيلة أولية باهتة، إذ يظل المكان في الرواية عنصراً من عناصرها الفنية، يقوم على استثارة خيال المتلقي من خلال اللغة ليضفي جوًا من الواقعية على الأحداث بذكر أماكن يألفها المتلقي ويتفاعل مع توظيفها داخل النص، ولا يمكن أن نطالب الروائي أو الروائية بنقل الواقع كما هو بما فيه رسم المكان، فضاء الرواية فضاء خيالي يضيف له الكاتب ما شاء من تفاصيل أو يغير فيه بما يتناسق مع الأحداث، وجدة في الفردوس اليباب ليست جدة في الواقع لأنها باختصار تحولت إلى مكان خيالي يتحكم في وصفه وتحديده خيال الكاتبة . @ عن عنصرية اللون رواية ميمونة كانت ذات الموضوع،أيضا القضية تم تداولها على مستوى الكتاب الأفارقة وكذلك الروائيين الأمريكان الذين هم من أصل إفريقي. ماهي الرؤية الجديدة التي قدمتها رواية جاهلية في هذا الموضوع وألا تشعرين بأن اختزال الموضوع في قصة حب يصادر العمق الذي يتحدث عن مصائر اللون الأسود؟ - رواية (ميمونة) رصدت البعد التاريخي لوجود هذه الفئة في المجتمع، أي بدأت من الجذور، وجاءت (جاهلية) تناقش قسوة تعامل المجتمع معهم بعد مرور مئات السنين على عيشهم بيننا، فطرحت لنا رؤية مفادها أن مجتمعنا حديث حداثة خارجية فقط أما الفكر فما زال يجتر موروثات ثقافية تحيزت ضد الآخر بعنصرية لا تنتمي إلى الدين أو الوعي المعاصر، الرواية هنا تفضح زيف البرواز الجميل الذي يغطي قبح الصورة، واختارت الكاتبة قصة حب بين فتاة من أسرة ذات نسب وشاب أسود لم يحصل على الجنسية فرفضت فكرة زواجهما لعقدة النسب التي يعاني منها المجتمع، وذلك ليس اختزالاً أضعف النص بل ربما تعمدت ذلك لأن عنف العنصرية يظهر هنا فنحن لا نلمس هذه الجاهلية إلا في موضوع الزواج الذي لا ينظر فيه لأي اعتبارات أخرى غير النسب ولا يمكن لأي فرد في المجتمع أن يتجاوز هذا الشرط حتى من انتسب إلى الثقافة وأصحاب الفكر الليبرالي إذ نفاجأ بهوة سحيقة بين الذي ينادون به من أفكار وحرية وبين مواقفهم من قضية النسب عند الزواج، تلك الجاهلية التي جاء الرسول ليؤكد "أنها منتنة"، فكانت القضية الرئيسة في الرواية ولكنها بجانب ذلك ناقشت أوضاعًا أخرى لحساسية اللون كفقدان الأمل في تعديل وضعهم بالتجنيس ثم تحطم أحلامهم بالتفوق الذي يسمح لهم بدخول الجامعات وكذلك الشعور بالأمن الوظيفي بالحصول على مراكز مرموقة، وأشياء أخرى كانت تبثها لنا أحداث الرواية بين السطور من خلال أسرة مالك وأوضاعهم، صحيح أن الفكرة الرئيسة تضغط على الكاتبة فتركز عليها لكنها في نظري مهمة لأننا متى تجاوزنا التفكير في اللون وصلنا إلى الإنسانية المطلوبة. @ في رواية القارورة وجدنا يوسف المحيميد يربط خديعة منيرة الساهي من علي الرحال بخديعة الغزو العراقي للكويت. . في جاهلية تؤرخ ليلى لأحداث الرواية بما بعد عاصفة الصحراء. . إذا ما كانت الخديعة في القارورة مبرر حضورها مع زمن الرواية.. فما هو المبرر في الاستناد على حادثة الصحراء في تأريخ أحداث جاهلية؟ - بدأت الرواية بمطلع يؤرخ ليوم من أيام العام الثاني عشر بعد عاصفة الصحراء لترصد حادثة الاعتداء على مالك من أخ البطلة هاشم، وهي تتعمد الربط بين الحادثتين لأن كلاً منهما كان اعتداءً وحشيًا وانتهاكًا لحرية الآخرين، فأمريكا تلك الدولة التي تدعي الديمقراطية وتنادي بعدم التمييز وتكفل حرية الآخرين، تناقض كل ما تنظر له لترتكب أبشع جرائم الحرب غير المتكافئة بين قوة جبارة كجيشها ودولة ضعيفة أنهكها الحصار الطويل حتى فقدت قدرتها على الدفاع عن نفسها وكانت تلك الحرب خديعة على كل المستويات، كذلك الاعتداء على مالك كان خديعة خطط لها في غفلة منه ومن دون ذنب ارتكبه يستحق أن يهاجمه هاشم مع مجموعة من أصدقائه في صراع غير متكافئ ليسقط بين الحياة والموت يعاني ألم الضرب وألم المهانة، والكاتبة هنا تحيل إلى جاهلية من نوع جديد عاد للظهور في الصحراء العربية التي اشتهرت بحروب طاحنة امتدت سنوات طويلة لأسباب تافهة لا تستحق موت الإنسان لأجل أعراف قبلية تحمل جهلاً مخجلا، وعندما تذكر عاصفة الصحراء وما حل بعدها من دمار فلأن مجتمعنا بعد حرب الخليج عاش انفتاحًا كبيرًا على ثقافات مختلفة وزاد التحديث في مجالات كثيرة قفزت البلاد فيها قفزة حضارية مذهلة ولكن كانت شكلية لم تغير في جاهلية الفكر، وكأنها تؤكد عودة الحقبة الجاهلية بكل أحداثها، هنا أرى أنّ الكاتبة استثمرت ثقافة الصورة فكانت تنقل إلينا من خلالها إحباط المثقف من كل ما يجري حوله وإحساسه بتناقض الواقع مع ما يؤمن به من أفكار، ومحاولة الربط بينها وبين ما يجري من عنصرية داخل مجتمعنا نحو فئات عاشت بيننا وعجزنا عن تقبلهم والتعايش معهم بوصفهم مشاركين في حياتنا. @ هاشم الشخصية الأكثر نزقا في الرواية. أو الأكثر ازدواجية في التعاطي مع العلاقات العاطفية . هذه الشخصية تم تجرديها من الثقافة، من الأمن الوظيفي. هل كانت هذه مسببات تكفي لأن يكون هاشم بهذه العنصرية ضد مالك. . أليس من الممكن أن يكون هاشم مثقفاً وصاحب وظيفة وأيضا له ذات الموقف من مالك؟ - أتفق معك هي أسباب غير كافية، وكما قلت سابقًا هذه العنصرية لا تخص طبقة معينة من المجتمع بل قد يكون بيننا كثير من المثقفين والمفكرين يتناقض فكره مع حياته، فيقف دوره على التنظير فقط أما التطبيق فيعجز عنه لأنه يحجم عن مواجهة ثقافة القبيلة وكسر أعرافها، والكاتبة هنا رسمت هاشم بتلك الصورة حتى لا تعترف بتلك الحقيقة المرة، فتكون الصورة أشد قتامة إن صدرت من مثقف، هي تنزع عنه هذه الصفات لتدل على أن من يرتكب مثل تلك الحماقات لا يمكن أن يكون إلا شخصًا جاهلاً علمًا وخلقًا. @ بينما مالك كان أكثر تسامحا في التعاطي مع إفرازات اللون في المجتمع.. نجد شقيقه يوسف يصل إلى مرحلة الانتحار..ونجد أن الأم أيضا تغذيه بعنصرية مضادة.. هذه اللمحة للوجه الآخر ماهي دلالاتها في الرواية؟ - لو لم تتناول الكاتبة هذه اللمحة في نصها لظهرت الصورة ناقصة أو كما قلت أنت في سؤال سابق مختزلة، لأنها تحمل لنا ردة فعل الآخر المضطَهد الذي سيظل قنبلة موقوتة ستنفجر في وجه كل من يزيد الضغط عليها، فالعنف لن يولد إلا عنفًا مضادًا، وتلك العنصرية تورث الأحقاد والفرقة والشتات التي تدفع إلى التفكير في الانتقام أو ارتكاب الجريمة وأعتقد أننا بدأنا نلمس آثارها الآن مع ازدياد معدل الجرائم التي ترتكب من بعض الفئات المهضومة، والكاتبة هنا تلمح إلى تلك الآثار من خلال شخصية يوسف شقيق مالك ووالدته، وهي وإن كانت إشارات بسيطة داخل النص إلا أنها تحمل دلالات ذكية. @ لين تذهب إلى مالك الفندق، تحادثه باستمرار بالهاتف، تصر على مرافقته في المستشفى. بماذا تفسرين هذا السقف المرتفع من الحرية للين.في ظل أسرة متشددة اجتماعيا؟ - الرواية منذ بدايتها رسمت لنا شخصية "لين" فتاة ثائرة على أفكار جاهلية وهي مثقفة ومتمردة لم تخضع لأحد، وهذا يفسر ما تشير إليه فعندما تحمل الشخصية استقلالا فكريا وماديا تتصرف كما تمليه عليها قناعاتها، لكن تلك اللقاءات التي تتحدث عنها كانت سرا لعلمها برفض أسرتها لها، كما أن موقف المستشفى لم توافق عليه أسرتها لكنها بعنادها وتمردها أصرت على البقاء، إذن نحن أمام شخصية قوية متمردة اختارتها الكاتبة بهذه الصفات لتمرر من خلالها ما تريده من أفكار ترفض العنصرية، وتشي بقدرة المرأة المثقفة على الاستقلال، نعود للقول إن عالم الرواية عالم متخيل يجوز فيه ما لا يمكن أن يكون في الواقع، فهو عالم مستقل ترسمه الكاتبة لتسرد حكاية معينة ليست مطالبة بحرفية الواقع فيها.... @ في صناعة الشخصيات الروائية.. قد أقول أن ليلى تجيد صناعة الشخصية الواحدة في رواياتها. ولهذا نجد الشخصيات الأخرى اقل اكتمالا في بنائها وفي إبراز ملامحها. ربما لأنها تسخر كل مجهودها في السرد لبطلة النص.. كيف تنظرين إلى الشخصية الروائية في تجربتها؟ - تظهر قدرة الروائي في براعته في رسم الشخصية بكل أبعادها، فيتعمق في دواخلها، ويحلل دوافع سلوكها، وتولي ليلى الجهني شخصية البطلة عناية خاصة، وتجعلها محور الصراع، إذ تجتهد في إبراز جوانبها، بإعطائها حيزًا كبيرًا من فضاء السرد،لأنها تحمل رؤيتها، وتجسد موقفها من قضيتها، أما عنايتها بالشخصيات الثانوية فهي محدودة مع أنها تأتي في أحيان كثيرة محملة بآراء الكاتبة أو مواقفها، مثل شخصية (هاشم) في جاهلية، و(عامر) في الفردوس اليباب. @ في ورقتك عن لغة الخوف وانعكاساتها على تقنيات السرد في الرواية السعودية لاحظت أن رواية (الفردوس اليباب) انعكس الخوف في لغة الرواية، حيث إنّ بنية الخوف والقلق والموت شكلت معجمًا لغويًا. كيف يمكن التوافق بين طرح موضوع جريء من المؤلفة وبين نزعة الخوف التي تتسرب في النص؟ - لا يعني طرح موضوع جريء تخلص الكاتب من مخاوفه، فقد يكون رغبة قوية في قتل ذلك الخوف الذي يظل مضمرًا وكامنًا في اللاوعي تدفعه لحظة البوح إلى السطح، من خلال إشارات تتولد عنها دلالات تكشف قضية الرواية التي يعالجها الكاتب بالتخفي وراء الكلمات للحديث على لسان شخصيات ورقية، تمنحه القدرة على التصريح بمفردات تشي بشعور الخوف الكامن في أعماق الكاتب، بسبب ما يعانيه في الواقع من مخاوف وهواجس تقيد حرية فكره، وقضية مثل قضية (صبا) في الفردوس اليباب عكست الخوف الاجتماعي في أقسى صوره، مما شكّل بنية لغوية خاصة داخل النص وظفتها الكاتبة للبوح بتلك المخاوف التي تضغط عليها ربما من دون وعي منها. @ لا اتفق معك في التبرير للساردة في تجاوزات لا منطقية في أحداث السرد. وحجة بأن عالم الرواية عالم متخيل لا تبيح لها تشكيل المكان أو الأحداث بطريقة تفقدها الصدق الفني. ربما لو كان النص فنتازياً فهناك مبرر للتجاوز؟ - التبرير للساردة ليس وظيفة نقدية ولا من مهام النقاد، وأنا هنا أؤكد على أمر مهم وهو: أن الكاتب عندما يكتب روايته يعبر عما يكتب بشيء من الواقعية وليس بالضرورة أن يصور الأحداث بدقة كما هي في الواقع المعاش، وإلا أصبح كاتب مذكرات أو مصوّرًا فوتوغرافيًا، ومن ثم يفقد النص ميزته كرواية ينبغي فيها أن يتفوق الخيال على الواقع، في محاولة الكاتب ابتكار عالمًا يبدو أكثر حقيقة من الواقع الذي نعرفه. @ لين ليست ثائرة حقا.. أعتقد المؤلفة حاولت إلباسها هذا الثوب الثائر.ولكن مفردات شخصيتها من خلال النص لا تمنحنا هذا التصور.وقضية التعلق عاطفيا بشاب من لون آخر لا يعني أنها في هذه المستوى من التجاوز؟ - كانت قضية حبها لذلك الشاب الأسود الذي لم يحصل على صك الخلود الذي يسمح له بالعيش في مجتمع تخنقه رائحة العنصرية في حدّ ذاتها ثورة على عادات المجتمع من حولها الذي يفرض قوانين عرفية صارمة تحرم الإنسان من اختيار مصيره، و(لين) هنا تخرج على هذه الحواجز فتختار من تريد، ويرد ذلك على لسانها عندما تؤكد أنها أحبت رجلاً نظرت إلى قلبه ولم تنظر إلى لونه، ولم ترتكب ذنبًا في حق الله أو الناس، ونلمس تمردها أيضًا في موقفها مع أمها في المستشفى عندما تصمم على بقائها مع (مالك) وتطلب من أسرتها أن تتركها فهذا أمر يعنيها وحدها، إلى غير ذلك من المواقف التي تشير إلى عنادها وثورتها على ما يجبرها عليه المجتمع. @ كيف أوفق بين امتداحك للغة ليلى بأنها تمتاز بتعدد مستويات اللغة وبين ملاحظتك بأن هناك ارتباكاً في استخدام اللغة الفصحى تارة واستخدام اللغة العامية تارة أخرى.في رأيي أنها نجحت في توظيف العامية في نص جاهلية؟ - أقصد تعدد الأصوات في الرواية الذي كان تقنية وظفتها الكاتبة بأسلوب جاذب حقق تنوعًا في مستويات اللغة داخل النص، لكن استخدام العامية من دون مبرر فني يقلل من وهج اللغة وهذا ما عنيته تحديدًا في رواية (الفردوس اليباب) كاستخدام العامية المصرية في حوار مطول امتد لأكثر من صفحتين من دون مبرر، حتى إننا يمكن أن نتجاوزه من دون أن يؤثر على السرد أو سير الأحداث، أما في (جاهلية) فلم نلحظ ذلك فعلاً حيث كان توظيفها لكل عناصر اللغة أكثر نضجًا. @ كيف تجدين صورة المرأة وتحديدا صورة المرأة المثقفة في روايات ليلى؟ - أشرنا سابقًا أن (صبا) في (الفردوس اليباب) ظهرت شخصية سلبية، حيث عجزت عن مواجهة واقعها فانتحرت إثر مرورها بتجربة قاسية، جعلتها تنكفئ على ذاتها وتهرب من مشكلتها بالموت، وعلى الرغم من ثقافتها العالية التي أشارت لها الرواية إلا أنها بدت هشة لا تعبر عن تلك الثقافة حيث انساقت بسهولة لشاب خدعها كما تخدع أي فتاة بسيطة، لكن الأمر اختلف مع (لين) في (جاهلية) حيث كانت أكثر نضجًا في توظيف ثقافتها بما يخدم قضيتها فهي قوية، ثابتة على موقفها، تمارس استقلالية في أفكارها وآرائها، وتواجه أخاها العنصري بجرأة قدرة على الحوار، فكانت محاولاتها للتمرد على الواقع تتمثل في رفضها للعرف الاجتماعي العنصري، ومحاولتها خلق عالم خاص بها يتحدى هذه الجاهلية، لكن تظل هذه الصورة خيال داخل النص، لأن المثقفة في واقعها مازالت تعاني ضغوطًا كبيرة من المجتمع تحد من انطلاقها تحت ستار العادات والتقاليد التي تشكل عائقًا أمامها فتقمع أحلامها. @ الرجل هل حضر بصورة ايجابية أم سلبية.. وفي تصورك لماذا الرجل العاطفي المكتوب في نصها أقرب لشخصية الرجل المثقف.هل تحمل هذه اللفتة إدانة ما لهذه الشريحة؟ - ظهر الرجل في روايتي الكاتبة بصورة سلبية، فهو الحبيب الخائن الذي تنكر لحبها وتركها محطمة تواجه الموت، وهو الأخ الجاهل الذي يحمل أفكارًا وحشية، قاسٍ يقتل الحمام البريء، ويحاول قتل حبيب أخته لمجرد عنصرية يؤمن بها، وكانت الكاتبة ترسم شخصية الرجل من خلال البطلة التي صورته في مواقف مختلفة بسلوكيات خاطئة تشير إلى حجم سلبيته وحضوره داخل النص على هامش السرد، أما بالنسبة لشخصية الرجل المثقف فلم يشر النص إلى ثقافة(عامر) في (الفردوس اليباب) ولم تتبين ملامح الشخصية إلا من خلال فعل الخيانة فقط، و(هاشم) كان أبعد ما يكون عن الثقافة بتفكيره الإجرامي، لكن شخصية المثقف برزت في (مالك) الصحفي المجتهد الذي استطاع كسب قلب (لين) فأحبته من دون غيره وأعجبت بسلوكه، فأخلص لحبها وسعى للارتباط بها، حتى أن والدها لم يجد به عيبًا سوى اللون الذي ترفضه جاهلية المجتمع، فأين تكون الإدانة لهذه الشريحة، وهي هنا تعكس صورة إيجابية له. @ يقول الدكتور عبدالله الغذامي عن رواية جاهلية أنها مجرد مقالة. كيف نظرتك لهذا الحكم النقدي وهو يصدر عن ناقد بحجم الدكتور الغذامي؟ - الدكتور الغذامي رائد من رواد النقد الحديث، وله أطروحاته النقدية المميزة، لكني لا أعلم لمَ أصدر حكمًا كهذا على رواية حملت كثيرًا من النضج الفني وعالجت قضيتها بأسلوب سردي استوفى شروط الرواية، وتميز عن السيل الروائي الصادر مؤخرًا بلغة فنية بعيدة عن الابتذال.