مقاهي القاهرة القديمة، عالم الرجال الساحر. يصطف رواد المقاهي فوق الدكك هنا وهناك، يرتشفون القهوة الساخنة وهم يتجاذبون أطراف الحديث فتختلط أصوات ثرثرتهم العالية مع رنين الأدوات المعدنية وإيقاع العبارات المنغمة المتبادلة بين العمال، وتزيد من روعة المكان وحيويته المناقشات الثقافية والاجتماعية والسياسية والفكاهية، لتكتسب المقاهي مع مرور الزمان وظائف وأسماء جديدة، فصار هناك مقاهٍ ثقافية وأخرى أدبية واجتماعية، ومقاهٍ للإنترنت وصار يطلق على المقهى «كوفي شوب». أما في القرن التاسع عشر فقد كانت المقاهي بؤرة ثورية، وعلى سبيل المثل كانت حكومة محمد علي شديدة القلق من أحاديث التمرد والعصيان في مقاهي القاهرة، فجندت جواسيس وعيوناً لها لتصغي إلى الأحاديث التي كانت تدور فيها. وعندما نقتفي آثار موقظ الشرق، الشيخ جمال الدين الأفغاني في مصر، نفاجأ بأن الرجل اتخذ من المقهى في مصر بوقاً إعلامياً يتصل بالجماهير، وكان مثل هذه الاجتماعات يعتبر الدروس العملية التي يلقيها بين زواره. وكان الأفغاني يدرس العلم في البيت الذي اتخذه في حارة اليهود والسياسة في قهوة البوسطة (متاتيا)، فضلاً عن إلقاء دروسه في الجامع الأزهر الشريف حيناً، وفي بيوت العظماء حيناً آخر. ولم تشتهر قهوة في تاريخ الفكر السياسي المصري مثل قهوة البوسطة في ميدان العتبة الخضراء في القاهرة والتي كانت لها صلة وثيقة بشيخنا الجليل وتلاميذه ومريديه، وسبب هذه التسمية، أنها كانت بالقرب من مبنى مصلحة البريد والتي كان يطلق عليها البوسطة وهو التعبير العامي عن كلمة «بوست» اللاتينية في اللغات الإنكليزية والفرنسية والإيطالية، وهي كلمة شائعة في اللهجة المصرية، وفق المؤرخ عصام الفرماوي في حديثه عن بيوت القهوة وأدواتها. كما كان يعرف مقهى البوسطة بمقهى (متاتيا) وهو مقهى من الدرجة الثانية تردد عليه، في ما بعد، إبراهيم الهلباوي وإمام العبد الزجال الظريف وإبراهيم المازني وعباس العقاد وحافظ إبراهيم والشيخ فهيم قنديل. ومن الواضح أن الأفغاني اتخذ من هذه القهوة مكاناً للاجتماعات حتى تكون كل الآراء التي تقال والمناقشات التي تجرى فيه على مسمع كل عابر سبيل. وارتبطت قهوة البوسطة بتاريخ جمال الدين الأفغاني، وهو فصل من فصول الفكر السياسي في حياة مصر الحديثة، إذ كان الأفغاني يجلس في صدر المقهى ويتألف حوله نصف دائرة من مريديه الذين يتسابقون إلى إلقاء أدق المسائل عليه، فيرد عليهم بلسان عربي مبين ويتفتق كالسيل من قريحة لا تعرف الكلل فيدهش السامعين بتلك الدروس الوطنية. وكان الأفغاني يمضي الليل في القهوة حتى يبزغ النهار، فيعود إلى داره بعد أن يدفع إلى صاحب المقهى كل حساب جلساته. وحدث ذات مساء أن وجد الأفغاني نفسه وحيداً في مقهاه، فأخذ عصاه في يده وذهب إلى حديقة الأزبكية المجاورة للمقهى وكان الشيخ من عشاق الحدائق والأشجار، فأحب أن يتنزه في حديقة الأزبكية وهناك وجد مقهى صف كراسيه ومناضده في الحديقة، فجلس وجاءت إليه صاحبة المشرب وكانت سيدة غاية في الجمال فجلست معه وسرها أن يكون من زبائنها هذا الشيخ الوقور وطلبت له كوباً من البيرة ما لبث أن سكبها على الأرض ثم أمسك بيدها وقال: حرام أن تحترق هذه اليد الجميلة في نار جهنم، فأجهشت الحسناء بالبكاء وتابت إلى من يقبل التوب، وأغلقت المقهى. وشاهد بعض الناس الأفغاني جالساً في هذا المقهى، فأبلغوا الشيخ محمد عليش العالم الأزهري والمناوئ للأفغاني وجماعته، فبدأ الشيخ عليش مهمته ضد الأفغاني الذي يجلس في مقاهي الأزبكية واتهمه بالفسق والفجور وعظائم الأمور، حيث كانت الأزبكية يوماً ما من الأماكن التي لا يبيح الشرفاء لأنفسهم الاقتراب منها، فكيف بالشيخ الأكبر جمال الدين الأفغاني؟ كانت أحاديث الأفغاني في المقاهي تمس شغاف قلب محبيه ومريديه الذين كانوا يناقشون أحوال مصر وما يتطلبه موقف مصر حينذاك وما جلبته القروض على العباد والبلاد من الخراب والدمار، وما عسى أن تسببه بتوسيع التدخل الأجنبي فشرع يقرب العوام إليه ويوسع صدره لهم بينما يقابل الحكام وذا الكلمة بالشدة والأنفة والعزة، فأوغر صدور الكثيرين ضده حيث اجتماع مجلس النظار برئاسة الخديوي توفيق وقرر نفيه، وبعد مساء السبت السادس من رمضان 1296ه، 24 آب (أغسطس) 1879م، وبعد خروج الأفغاني من قهوة البوسطة في جنح الليل قُبض عليه هو وخادمه أبو تراب، وحجز في الضبطية مهاناً معذباً وبعد ذلك اقتادتهما الشرطة إلى السويس حيث ركب سفينة خرجت به من مصر إلى الهند منفياً. ولكن الشعلة ظلت متوهجة في رفاقه من أبناء ندوة قهوة (متاتيا) الذين ألهبوا شرارة الثورة العرابية، لتستمر المقاهي تؤدي دورها السياسي والثوري حتى نهاية القرن 13ه/ 19م، إذ احتشد الخياطون في أحد المقاهي، وانضم إليهم بعض أعضاء لفَّافي السجائر والكثير من الرابطات العمالية للقيام بوقفة احتجاجية ضد أوضاعهم الاجتماعية. وفي حي الصليبة وخلال منتصف القرن 13ه/ 19م كان يوجد مقهى خاص بالأتراك «الباشبوزق» الذين كانوا يؤجرون أنفسهم للحرب والذين فنوا جميعاً في موقعة «هكس» في السودان بيد دراويش المهدية. كانوا يتخذونه مقراً لهم ونقطة انطلاق لتمردهم لتأخر مرتباتهم. وفي حقيقة الأمر، فإن السلطات لم ترحب بتجمع الأهالي في المقاهي لما يحتمل أن ينتج من آثار سياسية تهدد الأوضاع القائمة، بخاصة أنه يحدث في تلك المقاهي تبادل واحتكاك للأفكار ومناقشات للأوضاع السائدة في المجتمع تحريضاً للثورة ضد اللامألوف واللاإنساني. ويذكر الرحالة التركي تايتز أنه إذا تصورت المقهى كتجمع يضم الغوغاء والسوقة يصبح الأمر مخيفاً حقاً، فكثيراً ما ينتهي الحديث في المقاهي إلى السياسات القائمة، بخاصة أنه بدأ أكثر من انقلاب سياسي في المقهى أو على الأقل رسمت خطوطه، فهذه قصة ثورة لا قصة قهوة!