في كل يوم يصلنا خبر عن إقفال مقهى في قلب بيروت، وافتتاح آخر على أطرافها. اليوم، تقذف بيروت مقاهيها إلى أطرافها، كما يقذف البحر الأجسام الغريبة إلى شاطئه. لكن المقهى رمز ثقافي مديني، وفي هذا المعنى تكون بيروت قد لفظت ثقافتها إلى أطرافها، إلى الهامش. الأنكى من ذلك أن ما يحلّ محلّ المقهى المقفل هو محال للألبسة الفاخرة الخاصة بالسيّاح. وبكلام آخر بيروت اليوم تطرد مثقفيها لخاطر سيّاحها، وفي ذلك معنى خطير يستحقّ التوجّس منه. وحين نقول إن المقهى رمز ثقافي، فهذا ليس مبالغة، بل إن المقهى في الحقيقة هو أكثر من ذلك أيضاً. كان مقهى «ريش» في القاهرة يمنع تدخين الشيشة أو لعب الكوتشينة (ورق اللعب) أو طاولة الزهر لأنه ذو طبيعة ثقافية وروّاده من المثقفين. هؤلاء الروّاد الذين عاشوا قصص حبهم فيه، مكللين بعضها بالزواج: الشاعر أمل دنقل والصحافية عبلة الرويني، الشاعر أحمد فؤاد نجم والكاتبة صافيناز كاظم، الفنان محمد عبد القدوس وروز اليوسف... حتى أن دواوين عدّة صدرت تتغزل بهذا المقهى، كديوان «بروتوكولات ريش» لنجيب سرور، والقصيدة الشهيرة لأحمد فؤاد نجم، التي طالما تغنّى بها الشيخ إمام عيسى في فترة السبعينيات. في هذا المقهى، الذي ارتاده جمال عبد الناصر، وصدام حسين، وعبد الفتاح إسماعيل رئيس جمهورية اليمن الشعبية الأسبق، كان لنجيب محفوظ (الزبون المشترك لكل المقاهي الشهيرة في مصر) ندوة في كل يوم جمعة من الساعة السادسة مساءً إلى الثامنة والنصف، استمر في إلقائها حتى منتصف الستينيات. كما أن اجتماعاً عُقد فيه ضمّ أبرز فناني مصر، على رأسهم أم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب، في الأربعينيات من القرن المنصرم، أسفر عن إنشاء أول نقابة للموسيقيين في مصر والعالم العربي. في كتابه الصادر عام 1975، تحت عنوان «جماعة تحت السور»، يروي رشيد الذوادي كيف خرجت، من مقهى تحت السور الشعبي، الصحافة الهزلية وجميع الصحف التونسية التي رصدت في الثلاثينيات والأربعينيات، كجريدة «السرور» التي أصدرها علي الدعاجي، وجريدة «الشباب» التي أصدرها بيرم التونسي، بعد زيارته الثانية إلى تونس حيث التحق بجماعة «تحت السور»، وأصبح عضواً من أعضائها. السيد جمال الدين الأفغاني، الذي أقام في مصر من سنة 1871 إلى سنة 1879، كان لديه مقهاه المختار، وهو مقهى «متاتيا»، الذي كان يلتقي فيه وتلاميذه بانتظام، من أمثال محمد عبده، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وغيرهم من روّاد النهضة. ومثلما كانت المقاهي أشبه ما تكون بدور نشر شعبية، أو جامعات غير رسمية، شكّلت أيضاً، في بعض المراحل، مراكز بريد بين الريف والمدينة، بسبب اشتهارها كنقاط علام. كما كان بعضها ملتقى للسياسيين في سبيل التقرّب من الشعب وأبناء المناطق البعيدة، حتى أن الحاج متري، صاحب مقهى «متري» البيروتي، كان يُطلب رضاه في الانتخابات. «الطاحونة» هو اسم المقهى الذي بدأ فيه ماركيز حياته الأدبية، المقهى الذي لم يكن له فيه مكان محجوز، لكنه كان يتدبّر أمره بمساعدة النادل الذي كان يُجلسه أقرب ما يكون من طاولة «المعلّم الكبير» ليون دي غريف. «الطاحونة» اسم مقهى، لكنه يصلح أيضاً اسماً لقصة: قصة الأدباء والشعراء مع المقاهي وقصة الأدب مع فنجان القهوة. المقهى طاحونة فعلاً، طاحونة للوقت والأفكار والسجال، طاحونة رائعة لكن - مع إقفال المقاهي بهذا الشكل المريب – يمكننا القول إن ثمة طاحونة أخرى عملاقة ومتوحشة قررت أن تأتي على مقاهي المدينة، وأكاد أقول: على ثقافتها.