الذهاب إلى المقهى، طقس يومي عتيد، عرفه الأقدمون وارتاده وكتب عنه المعاصرون، فالمقهى في صورته المتعارف عليها عربياً وحتى عالمياً لا يخرج عن كونه حيزاً مكانياً متسعاً، يجلس به الناس يتسامرون ويتجاذبون فيه أطراف الحديث في مختلف الموضوعات الخاصة والعامة، التي ساهمت في تراكم النتاج الأدبي والثقافي الذي أدى إلى حراك اجتماعي نتيجة لظهور بيوت القهوة والمقاهي، وما صاحب ذلك من استقطابها لمظاهر جديدة في عالم الآداب والفنون الشعبية والأدبية، إذ ما يزال جمهور ومحبو وعشاق "الحكواتي" والإخباري وحتى الشاعر يتنفسون عبق القصة القصيرة والرواية التاريخية والقصيدة الشعرية، ويتذوقون فن الخطابة وحسن الاستماع، لذا كان "عبد الرحمن المناوي" -المصري- يطرب جلسائه بموشحاته المشهورة في المحبوبة السمراء وهو يقول: قهوة البن مرهم الحزن وشفا الأنفس فهي تكسو شقائق الحسن من لها يحتسي كشفت عن ما يجول داخل المجتمع من تغيرات وتطورات وعبّرت عن نبض الشارع واهتمامات الناس محبو «الحكواتي» والإخباري والشعر تنفسوا «عبق» القصة القصيرة والرواية التاريخية والقصائد الجميلة لذا فقد اختلف المؤلفون الأوائل في شأن القهوة وأماكنها وسردوا فيها أشعاراً وموشحات، بل لقد أوضح "محمد الأرناؤوط" في كتابه (من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي) أهمية القهوة في إثراء المجالس والأماسي الأدبية، وركز من خلال مؤلفه هذا على النتاج الفقهي والشعري الذي صاحب انتشار المقاهي. صرح مجتمعي وعلى الرغم من الصورة الفكاهية السائدة في مخيلة العالم العربي، فإن المقهى في حقيقة الأمر يظل صرحاً مجتمعياً وحضارياً شهد التاريخ العربي الحديث والمعاصر بأهميته ودوره الفعال في المجتمعات العربية، لاسيما أنه اقتصر على قهوة "البن اليماني" و"الزعفران الأصفهاني" وسلم من محاذير القول وقبيح الفعل الذي يزعج المارة والباعة في جنبات الطريق، لذا فقد أُعتبر المقهى مؤسسة مجتمعية تحوي في داخلها كل ما يعبّر بأصالة عمّا يجول داخل المجتمع من تغيرات وتطورات، ما يجعله مرآة عاكسة للمجتمع وصوتاً معبراً عن نبض «خدمة الشاي والقهوة» لم تكن سوى إطار خارجي لمؤسسة فكرية وحضارية ساهمت في الحراك الإبداعي «مقهى الفيشاوي» الأشهر في «حي الحسين» بمصر كان ولازال مكاناً مفضلاً للمثقفين والأدباء والسياح الشارع واهتمامات الناس ومؤشر لتوجهاتهم وطموحاتهم، فيه تستمع للحديث عن الأخبار وفي ردهاته تطرب لجميل القول والأشعار، فكأنك هنا في منبر إخباري وكأنك هناك في منتدى أدبي، وبين هذا وذاك عش ما شئت من الطرب، وأقرأ ما طاب لك من الكتب، لذا تعددت المقاهي بتعدد ملامح وتوجهات المجتمعات مثل "مقاهي العابرين" والمقاهي الشعبية ومقاهي المثقفين ومقاهي الرياضيين ومقاهي العمل. معسول الكلام وقد قالوا قديماً: "كم من مبدع عربي جلس على المقهى في هدوء وتأمل لتخرج منه شرارات الإبداع والإلهام"، بل كم من الإبداعات الفنية التي خرجت من بين جنبات مقاهينا وشوارعنا العربية لتزف إلى العالم القريب والبعيد مبدعين عرباً كان لهم مكانتهم الإقليمية والعالمية، وكم من الروايات أخذت من المقاهي مسرحاً لأحداثها ومفعّلاً لحبكتها ومنبراً حراً لتجلياتها، وكم شاهدنا فيها وبها أبطالاً يتفاعلون مع الأحداث تحولت المقاهي في الوقت الحالي إلى منتدى عالمي يبدأ ب«وميض» شاشة «اللاب توب» وينتهي بضغطة زر! والمستجدات الأدبية والثقافية التي حولت هذا المقهى أو ذاك إلى دكان صغير يباع فيه معسول الكلام ويبتاع منه جميل الأماني والأحلام، التي تعالج الهموم العرب بما جد من عالم الرواية والشعر والأدب، الذي زانت به الأقوال وغابت عن ساحته القرارات والأفعال. حراك إبداعي وفي مصر تظل خدمة الشاي والقهوة هي الشكل التقليدي للمقهى المصري الذي ما يزال يمثل جانباً من جوانب الحراك الاجتماعي والثقافي وحتى الترفيهي في الشارع المصري، لكن هذه الصورة النمطية المتمثلة في خدمة الشاي والقهوة لم تكن سوى الإطار الخارجي لتلك المؤسسة الفكرية والحضارية التي ساهمت وبشكل كبير في الحراك والنمو الإبداعي لدى المصريين، حيث فرض المقهى نفسه على المجتمع المصري الذي قال عنه المؤرخ المصري "جمال بدوي" ما نصه: "أن له دوراً في الحركة الاجتماعية بكافة مجالاتها، سواء كان في الريف أو المدن، فهؤلاء الناس المجتمعون داخل المقهى، لا شك كان يدور بينهم حوارات ونقاشات حول كل اهتماماتهم وهمومهم، وكانت كلها تنصب في هذا المكان". وفي القاهرة يظل "مقهى الفيشاوي" أحد أشهر وأقدم المقاهي في مصر في "حي الحسين" الذي كان وربما ما يزال المكان المفضل للمثقفين والأدباء، كما يحرص على ارتياده السائحون باعتباره أحد مزارات القاهرة التاريخية التي خرجت لنا قصائد "بيرم التونسي"، وأشعار "أحمد رامي"، كما جلس بين زواياها ثلة من الأدباء والساسة وكبار الصحفيين وعدد من مشاهير العلم والفنون المختلفة مثل "طه حسين" و"لطفي السيد" و"علي عبدالرازق" و"أحمد زويل". المقهى جمع البسطاء لتناول الحديث عن المشاكل والهموم ملتقى الأدباء ولا يزال المقهى العراقي كما وصفه أحد المستشرقين يوم أن زار مدينة بغداد القديمة آبان الحكم العثماني فقال: "في بغداد بين مقهى ومقهى.. مقهى"، في إشارة إلى الكم الهائل من المقاهي بشوارع بغداد وأزقتها، حيث كان أول مقهى افتتح في بغداد هو مقهى "خان جغان" عام 1590م في عهد الوالي العثماني "سنان باشا"، وكان ثمة مقاهٍ للقراءة ومطالعة الصحف التركية، كما أن مقهى "الخفافين" الذي أُسس قبل أكثر من (300) عام كان ملتقى الوجهاء والساسة والأدباء، وكانت هذه المقاهي موزعة على جانبي "حي الكرخ" و"حي الرصافة" وكذلك في الأماكن المكتظة بالسكان، وكانت تمارس وظيفتين أساسيتين؛ الأولى الراحة والتسلية، والثانية قراءة الشعر والقصص، ولعل البدايات الأولى لهذه المقاهي شوهدت منذ القرن الثالث الهجري، حيث المطاعم والمشارب الموزعة على أزقت وميادين بغداد التي لم تسلم من قصائد "ابن المعتز" ومقامات "بديع الزمان الهمداني". أصحاب المحال كانوا يخصصون أوقاتاً للأحاديث في المقهى ورأى الدارسون والباحثون في تاريخ وتراث المقاهي أن المقهى كان وما يزال يمثل العلاقة الحميمة بين المكان والإنسان، فقد مثلت المقاهي العراقية تلك العلاقة خير تمثيل، إلاّ أنه لم يُعرف للأدباء حضور بارز في هذه المقاهي إلاّ في القرن العشرين، حيث أصبحت حينها مراكز استقطاب لرجالات الأدب والسياسة والفنون، ومن أشهرها "مقهى البرلمان"، و"الزهاوي"، و"حسن عجمي" و"الشاهبندر" وكذلك "البرازيلية" و"البلدية و"المعقدين" وغيرها من المقاهي التي يتردد عليها رجال العلم والبيان والأدباء، حيث أصبحت تجمعاتهم أشبه بمنتدى للفكر والأدب. مثّل المقهى العلاقة الحميمة بين المكان والإنسان رحلات الهند وفي المنامة وقبيل "الظهيرة" يمكن للمرء أن يجد في المقاهي الشعبية جلسات مفعمة بالتاريخ وبعبق الماضي، ليستعيد معها حضارة "الدلمون" و"آوال"، ففي هذه الفترة من كل يوم تجتمع أعداد كبيرة من كبار السن في هذه المقاهي العتيقة لتستعيد ذكريات الماضي، خاصةً المتصلة بالغوص وركوب البحر في رحلات الهند والزنجبار. أما اليوم، فقد طرأ التغيير على المقهى البحريني الشعبي لكن في حدود شكلية، حيث مازال يقدم خدماته التراثية العريقة مثل "النخي" و"الباجلة"، مع استقبال مظاهر الحياة المعاصرة، لتشمل ما هو محلي وعربي وحتى أجنبي، فمثلما يقدم "الباجلة" والشاي "السنجين" يقدم كذلك "اليانسون" و"الكركديه". مقهى الفيشاوي في مصر مازال يقصده السياح فكري وسياسي ويُعد المقهى السوري عنصراً رئيساً في الهوية السورية، أمام اجتياح المقاهي الحديثة لأرصفة العاصمة، ففي أربعينات القرن الماضي، كان كل مقهى في دمشق يتميز عن الآخر بالشخصيات السياسية والثقافية البارزة التي كانت ترتاده، ومنها "مقهى هافانا" العريق بتاريخه الثقافي المديد، حيث كان رواده ينقسمون إلى قطاع فكري وسياسي، يتزعمه نخبة من الساسة والمفكرين وقطاع أو تيار أدبي يمثله عدد من الأدباء والشعراء والمثقفين، أما "مقهى الكمال" المجاور ل"هافانا" فقد كان له روّاده و جماعته الخاصة من الأدباء والساسة، كما بدأ الشاعر "نزار قباني" حياته الأدبية من خلال المقاهي الدمشقية التي شهدت بداية نبوغه، مروراً بمقاهي القاهرة التي عرف الطريق إليها حين عمل دبلوماسياً في السفارة السورية بالقاهرة، منتهياً بمقاهي لبنان وباريس ولندن والتي كتب على طاولاتها أعذب وأروع قصائده، وهو يقول: غنت فيروز مُغرّدة ً وقلوب الشعب لها تسمع الآنَ الآنَ وليس غداً أجراس العَودة فلتُقرَع مِن أينَ العودة فيروزٌ والعودةُ تحتاجُ لمدفع والمدفعُ يلزمُه كفٌّ والكفّ يحتاجُ لإصبع والإصبعُ مُلتذ ٌلاهٍ في أذن الشعب له مَرتع عفواً فيروزُ ومعذرة ً أجراسُ العَودة لن تُقرع خازوقٌ دُقَّ بأعيننا من شَرَم الشيخ إلى سَعسَع ليرد عليه "البرغوثي" من خلال مذياع في زاوية المقهى وهو يقول: عفواً فيروزٌ ونزارٌ فالحالُ الآنَ هو الأفظع كُنا بالأمس لنا وَطنٌ أجراسُ العَوْدِ له تُقرَع ما عادَ الآنَ لنا جَرَسٌ في الأرض ولا حتى إصبع فالآنَ الآنَ لنا وطنٌ يُصارعُ آخِرُهُ المَطلع عفواً فيروزٌ ونزارٌ أجراسُ العودةِ لن تُقرَع استعادة الماضي عبر إنشاء مقاهٍ على الطريقة القديمة ثقافة وترفيه وفي المملكة العربية السعودية نذهب إلى جيل جديد من المقاهي العربية، هو بحق أحدث المقاهي وربما أكثرها طرافة وحداثة، ففي جدة والخبر، ثمة مقاه خصصها مؤسسوها بالكامل للسجالات الفكرية والأدبية والثقافية، يستريح فيها روادها وزبائنها في أجواء تعبق بالثقافة والترفيه، وقد صمم على طريقة مقاهي المشاهير، حيث الأدباء والكتاب والفنانون التشكيليون، الذين هم في صدارة زبائنها. وتجمع المقاهي بين أرجائها الرجال والنساء، كلٌّ على حدة، ضمن بيئة تتوافق مع ثقافة المجتمع وخصوصيته المحلية، يقرؤون الصحف والكتب والدراسات ويحتسون القهوة والشاي والمرطبات، مما يضفي جواً اجتماعياً شبيهاً بالديوانية الخليجية، وهكذا فالمقهى ليس مكاناً للعب والنجوى فقط، بل هو أيضاً مكان للتواصل والتربية والحوار يساهم في نشر الثقافة والوعي والحس الأدبي الرفيع. في الوقت الحاضر ضغطة زر تفتح الباب إلى الخيال الأدبي ضغطة زر وما أروع أن يعكف هذا الشاعر على قصيدته في إحدى زاويا هذا المقهى أو ذاك، وما أجمل ذلك الفنان التشكيلي وهو ينسج بريشته شعاع الغروب، ويا لسعادة ذلك المقهى بهذا الروائي أو ذلك القاص وهو يصور ويحبك أحداث روايته في جنبات المقهى الذي يمثل لدى الكثيرين المكان الأنسب للمطالعة والحوار والنقاش المفتوح، الذي يعكس صدقية استمرار التواصل بين البشر، الذين أصبح المقهى يمثل لهم في هذه الأيام جزءًا من منتدى عالمي يبدأ بوميض شاشة ال"لاب توب" وينتهي بضغطة زر صغير أقل ما يقال عنها إنها مقاهي الجيل الجديد "الإنترنت" التي تفتح الباب واسعَا للخيال الأدبي والإلهام الإنساني وربما العواطف والأحاديث الدافئة التي يبحث عنها بعض شباب هذا الزمان. img src="http://s.riy.cc/2014/03/21/img/954245959614.jpg" title=" "الكوفي شوب" مقهى حديث يوفّر خدمة الإنترنت"/ "الكوفي شوب" مقهى حديث يوفّر خدمة الإنترنت