منذ «استيقاظ» الصحوات الإسلاموية، ما بعد إسقاط نظام الشاه في إيران عام 1979، وغفوة الوطنيات في الكثير من البلدان العربية وغير العربية، تأخذ طابعاً وسمات فتنوية، تحرّض على الجريمة والقتل باسم تدين يغالي في عصبويته وتعصبه، فيجرى ترذيل كل من هم خارج صنم التوثين الديني، وتكفيرهم وزندقتهم، حتى طاولت المسألة فرقاً وتيارات دينية، وجد المكفرون فيها خروجاً أو شذوذاً عن نمط معياري في التدين، ليس شرطاً أن يكون هو السائد المهيمن، بل قد يكون هو الأعلى صوتاً والأطول باعاً في التكفير. لقد راجت الفتنة وأفكارها في شوارع البلدان العربية، حتى باتت الصراعات الداخلية الأهلية طائفية ومذهبية، هي الأعلى منزلةً على حساب كل الصراعات الطبقية داخلياً، والوطنية مع العدو الخارجي؛ وغابت أو غُيّبت كل القضايا، فلم يبق في الساح غير قضية يعتقد المتدينون أنها الأولى ب «جهادهم»، ألا وهي قضية حيازتهم السلطة السياسية، وضمّها إلى ممتلكات سلطتهم الأهلية الإلهية والدنيوية؛ وإلا ما معنى «الأخونة» الجارية اليوم في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، وغداً في سورية، إذا لم يكن مرادها هيمنة دينية سلطوية وتسلطية على الدولة والمجتمع، وجعل وطنيتهما العدو الرئيس لقوى دينية تصعد إلى السلطة؛ كملاذ أخير لها لتحقيق هيمنة مطلقة، لا تقبل القسمة أو المشاركة أو التعاون مع قوى أخرى، حتى من الطينة ذاتها. إن خطورة ما يجري اليوم في بلادنا، تتجاوز إمكانية نشر الفوضى المسلحة، والانقلاب على الدولة، والنظر إليها ككيان معاد، وارتياد دروب الفتنة المذهبية والطائفية والفئوية والفصائلية المقيتة، وهذا هو ديدن بعض المستشيخين الذين آثروا تنفيذ مهمة من أقذر مهمات محاولة تدمير المجتمعات، بإثارة الفتنة المذهبية بين مكوناتها. وظاهرة أحمد الأسير والتنظيمات السلفية، القاعدية منها وغير القاعدية، في لبنان، من طرابلس إلى صيدا اليوم، ليست إلا دليل محاولة توهين الوطنية اللبنانية الجامعة، وترذيل وجود الدولة ونصب الحواجز والموانع أمام قيامها بأدوارها المفترضة. كذلك يقوم الانقسام الفلسطيني مقام توهين الوطنية الفلسطينية، ونصب الموانع والحواجز أمام تطور المشروع الوطني الفلسطيني، بل إعادته سنوات طويلة إلى الوراء، بكسر إرادته المفترض أنها مرهونة لتحدي الاحتلال، لا البقاء عند حدود ابتناء سلطة المصالح الفئوية الخاصة لنخب سلطوية تخلت عن كفاحيتها وكفاحية شعبها، فما عادت مهمومة بالمصالح والتطلعات الوطنية العليا، ولا بضرورة الوحدة الوطنية، كهدف سام ومتعال في مواجهة العدو. مضى زمن كانت وطنية المجتمعات والدول والشعوب لا تتعارض أو تتناقض مع التدين الشعبي أو الشعبوي، والأهلي أو الأهلوي، وإذ بنا اليوم في زمن «الغفوات الدينية» التي يمارون بها صحوات مكذوبة وزائفة، في مهب رياح التناقض الصارخ والمطلق بين التدين وكامل مسائل الوطنية وقضاياها، بما فيها مسألة بناء الدولة الوطنية، والمجتمعات الوطنية، أما تلك «الأمميات» الزائفة، فما هي إلا محاولات للهروب الدائم من مواجهة الوقائع ومسائل الواقع براهنيتها، والابتعاد عن قضايا المجتمعات المحلية، وإذا ما جرى الالتفات إليها، فما ذلك إلا نوع من التمحك، ونصب متاريس الفتنة وتوظيف بعض القضايا في خدمة العصبويات والغرائز الطائفية أو المذهبية، إلى حد استدعاء الصدام حتى بين أبناء المذهب الواحد وفرقه وتياراته المتصادمة؛ غير «المتصالحة» إلا في مواجهة قوى اليسار والحداثة والعلمانية. أما السلطة السياسية، فهي شأن اهتمام رئيس آخر، لكل أولئك الذين ما ملوا ولن يملوا من ترديد مقولة ان «الإسلام دين ودولة»، كي يبرروا لأنفسهم اشتغالهم على تسييس الدين وتديين السياسة، وهم الذين كانوا على الدوام ميكيافيليين أكثر من مكيافيلي، وملكيين أكثر من الملك، وانتهازيين أكثر من انتهاز السياسيين، وهم يعمدون الى التشبث بمواقعهم السلطوية، حتى أضحت السلطة المغنم الدائم و «الأيقونة المقدسة» لكل العامدين إلى ممارسة فعل الاستبداد، العاملين على نشره وفقاً للمقولة البونابرتية الشهيرة (أنا السلطة والسلطة أنا)... ولهذا لم ولن يبقى من «الإسلام السياسي» سوى نوستالوجيا وإرث سلطة كانت وتكون؛ حتى لو استمر فعل الفتنة الغشوم. هو الطلاق البائن إذاً بين الدين والسياسة، في التشريع، كما في السلوك والممارسة؛ وفي كل المحطات، قديماً وحديثاً، أثبت «العقل الديني» أنه ليس في وارد ارتياد دروب السياسة ومسالكها، بل تطويع السياسة وقسرها وإرغامها على خدمة التوظيف الديني لها لمصلحة ثيولوجيا الهيمنة. وما محاولات «الأخونة» في مصر وتونس، سوى الدرس والتطبيق العملي لحقيقة تسييس الدين، وتديين السياسة، وجعلهما في خدمة التوظيف البشري لما يزعمون أنه «شريعة السماء». * كاتب فلسطيني